البرنامج الصناعى المصرى
صفحة 1 من اصل 1
البرنامج الصناعى المصرى
البرنامج الصناعى المصرى
أسباب الفشل وعوامل النجاح
بقلم د:ابراهيم عبد المطلب
في عام 2001 ذهبت زوجتي لزيارة مصر بعد 8 سنوات غياب. وكالعادة، طلبتُ منها أن تحضر بعض الهدايا لكي نقدمها للأصدقاء هنا في أمريكا وأكدت عليها أن تأتي بهدايا قيمة تليق بالمقام. بالطبع نحن المصريين لا نجد ما نقدمه من هدايا إلا تماثيل لبعض ملوك قدماء المصريين أو الأهرام أو أبو الهول لأنه لا يوجد في مصر شيء يمكن أن تقول عليه أنه مصري إلا هذه المصنوعات.
عادت زوجتي والأولاد من السفر بعد ثلاثة أشهر فهالني ما رأيت من تغير في الأولاد. لغتهم تغيرت، كلما أمرتهم بشيء يقولون "ماشي". أفعل هذا، الرد "ماشي". لا تفعل هذا، الرد أيضاً "ماشي". الشيء الآخر الذي لاحظته هو استخدام جملة "إنشاء الله" للتسويف بدلاً من كلمة "لا".
بعد أن استوعبت هذا التغيير و بعد أن أخبرتني زوجتي بكل الأخبار وما جرى وما لم يجري، سألتها عن الهدايا فأجابت بفخر: "أنا جبت لك هدايا هترفع رأسك. هدايا عجبت كل اللي شافوها. ومش ها تصدق لما تشوفها. أنا جبت أغلي حاجة في خان الخليلي". عندما سمعت ذلك قلت لنفسي: " جنت على نفسها براقش. آنت السبب، كان يعني لازم تقول: هدايا تليق بالمقام. أكيد افتكرت أن المقام عالي، و بحبحت أيديها في الهدايا، وخربت الميزانية. ولكن هتعمل إيه-- لقد سبق السيف العزل."
أخرجت الهدايا وهو تقول: " شوف اللي أنا جبته، عشان تعرف مراتك شاطرة إزاي، وبتوفر لك قد إيه؟" ناولتني الهدايا وكانت مكونة من بعض التماثيل الفرعونية ومجسم للأهرام ومساطر وأقلام منقوش عليها رسوم فرعونية وغيرها من الهدايا التقليدية من النوعية الجيدة. بعد أن أعطتني الهدايا قالت: "الراجل كان طاب في التمثال ده 100 جنيه، تعرف أنا أخدته بكام؟" أجبت: "بكام" قالت : "بعشرة جنيه بس؟"
شكرت زوجتني بعد أن حكت لي بالتفصيل قصة كل هدية وسعرها الأصلي وسعرها الذي اشترت به. بعد ذلك أخذت علي إصري و جعلتني أقر بأنها وفرت لي الكثير و أشهدتني على نفسي أنني من دونها كنت أشهرت إفلاسي، فشهدت، فقالت "وأنا معك من الشاهدين".
أخذت الهدايا لأعطيها لأصدقائي. أحد زملائي في الجامعة هو الدكتور فنس ماكجن Vince McGinn"" أستاذ الكهرومغناطيسيات بالجامعة. ماكجن هذا له ابن في المدرسة الابتدائية ومهتم بحضارة قدماء المصريين ويجمع الصور والتحف والمقالات عن هذه الحضارة. حينما زرتهم في البيت أروني المتحف الصغير الذي يكونه هذا الابن. لذلك وجدت أن التماثيل التي أحضرناها ستكون هدية قيمة لابن صديقي هذا. أخذت الهدايا وذهبت إلي بيت صديقي لكي أقدم الهدايا للابن بنفسي حتى يشعر أنها هدايا له شخصيا. أعطيته الهدايا ففرح بها وانطلق إلي حجرته لكي يضيف هذه الكنوز إلي مقتنياته الفرعونية، بينما أنا جلست مع والده نتجاذب أطراف الحديث.
غاب الطفل بعضاً من الوقت ثم رجع وهو في حزن شديد مطأطئ الرأس. سأله والده: ما الخبر؟" قال الطفل: "المُدرسة في المَدرسة أمدتني بمعلومات خطأ عن الأهرام والملك توت عنخ آمون." اندهشنا لهذا القول فقلت: "كيف؟" قال: "هي أخبرتني أن الأهرام موجودة في مصر، لكن أنا اكتشفت أنها موجودة في الصين؟" اندهشنا لهذا القول، ونظر إلي والده لكي أجيب على ذلك. أحسست بالواجب القومي يناديني أن أدافع عن كرامة مصر وعن أجدادنا الفراعنة وآثارهم. أحسست أن الجميع يريد أن ينسبوا أجدادنا إليهم ويغتصبوا حضارتنا القديمة. فالإسرائيليين يدعون أن اليهود هم من بنوا الأهرامات والآن الصين تدعي أن الأهرامات موجودة في الصين. ألا يكفيهم سور الصين العظيم؟ يريدون أن يأخذوا الأهرامات أيضا! إنها فعلاً مؤامرة!
قلت للطفل: "الصين عندها سور الصين العظيم لكن مصر فيها الأهرام والملك توت." أجاب الطفل: "هذا ليس صحيح وسأثبت لك." خرج الصبي وعاد معه كيس الهدايا الذي أعطيته إياه. أخرج الهدايا ووضعها أمامي وقال: "انظر مكتوب إيه "صنع في الصين" Made in China أكيد الأهرامات في الصين. قلت موضحاً ومبتسماً: " الأهرام الحقيقية في مصر لكن التماثيل مصنوعة في الصين." قال: "لما الأهرام في مصر لماذا لا تصنعوا التماثيل في مصر؟ أنا أريد تماثيل من مصر."
حاولت أن أشرح له الفرق بين التماثيل الحقيقية والتماثيل الهدايا ولكنه بدأ يفقد اهتمامه بالموضوع وتركنا وسار خارج الحجرة. صاح والده طالباً منه أن يأخذ الهدايا فرد الصبي: "لا أريدها، إنها مزورة." قالها بالإنجليزية (It is fake). اعتذر والده عن ما قاله الصبي، لكني كنت في حالة من الخجل حاولت أن أداريه فابتسمت وغيرت الموضوع.
ما حدث أثار في حلقي غصة وجعلني أسأل نفسي: كيف وصلت مصر إلي هذا المقام؟ لا تستطيع صناعة أقلام رصاص منقوش عليها رسوم فرعونية أو صناعة تماثيل من الجبس لملوك الفراعنة؟ هل الصناعة المصرية بهذا السوء لدرجة أننا نستورد أقلامَ الرصاص من الصين. كيف وصل المشروع الصناعي المصري إلى هذا المستوى؟ ما هي عوامل الفشل؟ وما هي أسباب النجاح؟ هذه الأسئلة جعلتني أفكر في دراسة مسيرة مصر الصناعية وأسباب تعثرها وكيفية النهوض بها.
بعد هذه الحادثة بشهر وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي قام فيها مجموعة من أنصار أسامة بن لادن بتفجير برجي التجارة في نيويورك وضرب مبنى البنتاجون في واشنطن. طغت على اهتماماتنا أحداث الحرب على أفغانستان والعراق وكذلك ما يحدث للفلسطينيين. أظهرت هذه الأحداث هشاشة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والصناعي في مصر والدول العربية. لإحساسي بأهمية هذا الموضوع قررت أن أبحث موضوع الصناعة في مصر و أن أكتب عدة مقالات لعلها تفتح مجال للنقاش والتعليق والمشاركة.
عصر محمد على
عوامل النجاح
محمد علي هو مؤسس مصر الحديثة. بالنظر إلي بدائل محمد علي من الأتراك أو المماليك يدرك الإنسان أنه لولا محمد علي لتأخر تحديث مصر لعشرات السنين و لربما كان وضعنا الآن لا يختلف عن وضع أي من دول حوض النيل الأخرى مثل السودان أو إثيوبيا. إنه قدر عجيب أن يأتي بمحمد علي كفرد تابع للخلافة العثمانية من أوربا ليتخطى كل العقبات ليكون والي مصر رغم أنف الباب العالي والمماليك. إنه قدر عجيب أن يأتي بالشخص الوحيد في مصر الذي لديه القدرة على هذا العمل ويمكنه من حكم مصر. و لكنه قدر يثير الرعب أيضاً! ماذا كان سيحدث لو لم يحالف محمد علي الحظ ولو مرة واحدة. لو حدث ذلك فلربما كان كثير منا الآن يحلب" معيز" في إحدى الحقول أو يبيع "سميط وبيض وجبنة” في أحد الموالد.
لكن لماذا كان محمد علي هو الوحيد في ذلك الوقت المؤهل لتحديث مصر؟ هناك، في رأيي سببان رئيسيان: ألأول أن محمد علي أوربي المنشأ، والثاني هو الذكاء الفطري النادر لمحمد علي الذي لا يتكرر كثيراً.
أهمية نشأة محمد علي الأوربية ترجع إلى تأثره بالعقيدة العسكرية الأوربية والتي تعتبر أن السلاح هو العامل الحاسم في تحديد نتيجة المعركة. هذه العقيدة لم تكن متبناة في الشرق حيت تُعتبر الشجاعة والإقدام العوامل الحاسمة لتحديد نتيجة المعركة. هذا يفسر قيام المماليك في الحرب بالاصطفاف علي شكل هلال و الهجوم السريع للفرسان بشجاعة وإقدام بطريقة غير منظمة “loose formation” لكي يصاب العدو بالذعر ويفل هاربا. هذه التكتيك قد ينفع مع جيش من جيوش الشرق ألأوسط ولكن للأسف لم ينفع المماليك في معركة الأهرام مع الفرنسيين. لقد تمكن الفرنسيين بسلاحهم المتفوق من تدمير جيش المماليك في أقل من ساعتين وتم قتل 5000 من المماليك مقابل 300 فقط من جيش نابليون. لم تنفع المماليك الشجاعة الفائقة التي أظهروها بالرغم من أن هذه الشجاعة أذهلت نابليون لدرجة انه اتخذ أحد المماليك ليكون سكرتيره الخاص واستمر معه حتى عندما أصبح إمبراطوراً لفرنسا. نفس الشيء حدث للهنود الحمر في أمريكا اللاتينية عندما أستطاع أقل من 200 جندي أسباني من هزيمة آلاف الجنود من المقاتلين الهنود.
نشأة محمد علي الأوربية هذه تفسر مسارعة محمد علي لبناء قاعدة صناعية ضخمة للأسلحة الحربية. هذه القاعدة مكنته من بناء جيش قوي يبلغ قوامه أكثر من 200 ألف جندي قادر على خوض معارك وهزيمة جيش دول كبرى في البر والبحر. هذا الجيش تمكن في وقت قصير من بناء إمبراطورية مكونة من مصر والسودان والحجاز والشام وجزء من تركيا.
أما ذكاء محمد علي الفطري فمكنه من مراقبة الجيوش الأوربية (الفرنسية والإنجليزية) أثناء القتال واستخلاص العبر الصحيحة منها. من هذه التجربة أدرك أثر التدريب الجماعي واللياقة البدنية والانضباط علي نتيجة المعركة. نتيجة لذلك أصر محمد علي على تدريب الجيش على الطريقة الأوربية. لذلك أحضر مدربين من الخارج و أرسل البعثات للدراسة في كل أنواع الفنون لعلمه أن كل العلوم والفنون مطلوبة لبناء جيش قوي. هذا يفسر لماذا كانت المدارس المنشأة تابعةً للجيش وحتى الصحف بدأ صدورها من المؤسسات العسكرية.
هذا الذكاء جعل محمد علي يدرك أيضا أن تكوين جيش من الأتراك سيؤدي حتماً إلي مؤسسة ولاؤها للسلطان العثماني وليس له، وهذا لن يمكنه من بناء الإمبراطورية التي يحلم بها. لذلك قرر محمد علي تمصير الجيش، بالرغم من اعتراض الجنود والضباط على ذلك.
قام محمد علي أيضاً بإصلاحات في قطاع الزراعة، وذلك بتوزيع أراضي على الفلاحين و بزيادة الرقعة الزراعية بشق الترع وبناء القناطر. بذلك ضمن دخل يمكن أن ينفق منه على الجيش.
بذلك يمكن أن نقول أن أسباب نجاح محمد علي تكمن في تبني عقيدة عسكرية صحيحة، إقامة صناعات عسكرية محلية يستطيع أن يتحكم في إنتاجها، تدريب كوادر مصرية في جميع العلوم والفنون وإسناد مهمة التطوير لهم عندما أصبحوا قادرين عليها، توفير التمويل ألازم للجيش من الإصلاحات في قطاع الزراعة ولم يعتمد على التمويل الأجنبي. أي أنه تمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي المحلي في كل قطاعات الجيش وهذا مكنه من أن ينتج ما يحتاج عندما يريد. أو يمكن أن نقول أنه تمكن من تحقيق الاستقلال التام.
ذكرنا أن من أسباب نجاح محمد علي أنه كان أوربي المنشأ ويتمتع بذكاء عالي. إذاً لماذا فشلت التجربة الصناعية المصرية بعد هزيمته من الأوربيين؟ إن قيل حدث هذا لأن محمد علي توفى وخلفه حكام ليسوا على نفس القدر من الذكاء لقلنا نعم هذا صحيح أنهم ليسوا على نفس القدر من الذكاء ولكنهم هم نفس الحكام الذين ترعرعت في أيامهم، أو بالرغم عنهم، كل الفنون والثقافة والآداب وهم نفس الحكام الذي زاد في أيامهم الدخل إلى الضعف بين عامي 1823 و1860 وتضاعف 12 ضعفاً من عام 1860 إلى 1913. لماذا إذاً نهضت مصر ثقافياً ولم تنهض صناعياً؟ وحتى لو كان هؤلاء الحكام أقل ذكاءً من محمد علي، فكثير من الدول مثل إنجلترا تولى عرشها ملوك مجانين مثل جورج الثالث وشواذ مثل الملك جيمس بالرغم من ذلك تقدمت إنجلترا صناعياً في حين تخلفت مصر. نحن نقدر ذكاء الحكام ولكن ضمان آن يكون الحكام غاية في الذكاء شيء لا يمكن تحقيقه.
ربما يقول البعض إن انعدام الديمقراطية هي سبب الفشل. نقول نعم الديمقراطية لها تأثير عكسي ولكن التقدم الصناعي لم يقتصر على الدول الديمقراطية فقط، بل بعض الدكتاتوريات حققت نهضة صناعية كبيرة. يكفي دليلاً على ذلك الإتحاد السوفيتي، اكبر دكتاتورية في العالم، استطاع أن ينشأ صناعة جعلته دولة صناعية تناطح الولايات المتحدة. فإن قلت لكنها الآن تعتبر دولة من الدرجة الثانية، نقول نعم ويمكننا أن ندعي أنها أصبحت كذلك عندما بدأت تهب عليها رياح الديمقراطية بعد أن تولى جورباتشوف الرئاسة، و لاكنا لا نقول ذلك لأن الديمقراطية في النهاية تؤدي إلي قوة الدولة وازدهارها إن طبقت كما يجب. كذلك نجد أن دول دكتاتورية أخرى مثل كوريا وتايوان حققوا معجزات صناعية قبل أن يكونوا ديمقراطيات. كذلك اليابان الني بدأت نهضتها الصناعية بعد مصر بخمسين عاما أصبحت دولة عظمي في خلال 40 عاما بالرغم أنها لم تكن دولة ديمقراطية بالمعني الغربي.
إن قلت السبب هو الأمية، نقول بالطبع الأمية عامل سلبي ولكنه ليس بقاتل لأن محمد علي تمكن من إقامة صناعات عسكرية متطورة بنسبة أمية عالية (93 %). أضف إلى ذلك أن الأمية في باقي الدول التي تقدمت كانت عالية أيضا و لم تكن صفراً في ألمائه.
فإن قلت السبب هو تآمر الدول الغربية على مصر لقلنا وهكذا كل دولة تتآمر عليها الدول الأخرى. إنجلترا كانت تتآمر على فرنسا وكذلك فعلت فرنسا مع وألمانيا وأسبانيا وجميع الدول الصناعية. لم تسلم دولة من التآمر. بالرغم من ذلك أصبحت كل هذه الدول دول صناعية متقدمة بدخول متقاربة للفرد في كل منها.
فإن قلت ليس التآمر فقط ولكن الدخول في حرب وهزيمة مصر في هذه الحرب، لقلنا كذلك هُزِمت فرنسا من إنجلترا وهزمت جميع دول أوربا من نابليون فرنسا، ثم هزمت فرنسا من بسمارك ألمانيا في عام 1871 وتم أسر الإمبراطور الفرنسي. بالرغم من كل هذه الهزائم تمكنت الدول الأوربية من تحقيق نهضة صناعية متقدمة.
فإن قلت ربما تضافر كل هذه الأمور هو السبب، لقلنا وهذا بالنسبة للدول الصناعية الأخرى تضافرت هذه الأمور وكان لها تأثير سيء لكنها لم تقتل الصناعة وتمكنت هذه الدول من تقليل أو رفع تأثير هذه العوامل.
السؤال إن لم تكن العوامل السابقة هي السبب فما هو السبب إذاً؟
العامل الأول هو أن محمد علي أنشأ صناعة عسكرية وكانت الصناعات المدنية موجودة لكي تغذي الصناعات العسكرية. لقد جعل محمد علي الاقتصاد المصري، الزراعي والتجاري والصناعي رهينة للقطاع العسكري. ألصناعة العسكرية بالطبيعة صناعة غير منتجة بل هي صناعة هالكة: إما بالتدمير أثناء المعارك وإما بالتكهين (تصبح كُهنة أو خًردة) عندما تستنفذ مدة صلاحيتها. الصناعة العسكرية تعتبر صناعة شبه منتجة في حالتين: أولها أن تستخدم لضمان استقرار البلد والثانية أن تستخدم لتطوير تكنولوجيا ذات استعمال مدني. أما أن تكون صناعة عسكرية بحتة فإن دورتها في الاقتصاد تكون ضعيفة.
لا يمكن لدولة تعتمد كلياً علي الصناعات العسكرية أن تستمر. الدليل على ذلك هو الإتحاد السوفيتي الذي سخر جزء كبير من الاقتصاد لدعم المؤسسة العسكرية. هذا أدي في النهاية إلي انهيار الإتحاد السوفيتي ولولا أن كان هناك صناعات مدنية روسية لكان انهيار روسيا الاتحادية انهياراً كاملاً. المثال الثاني هو فرنسا نابليون. تمكن نابليون من هزيمة جميع دول أوربا بصناعاته العسكرية وخاصة المدفعية التي كانت الأفضل في العالم، لكنه انهار في النهاية ولم تلحق فرنسا بالثورة الصناعية إلا بعد أربعين عاماً أيام نابليون الثالث.
في حالة مصر، وضعت شروط علي عدد وعدة الجيش فوجدت مصر نفسها في وضع منهار لأن كل الاستثمار في الصناعات الحربية قد ضاع ولا توجد صناعات مدنية قادرة على استكمال المسيرة. في حين استمر التطور الثقافي والاجتماعي والأدبي والفني لأن هذه الأعمال وجدت منفذ في الحياة المدنية لكي تتطور بالرغم أن سبب وجودها كان لحاجة الجيش لها.
العامل الثاني الذي دمر الصناعة المدنية هو رخص الأيدي العاملة في مصر. ربما يختلف معي البعض في هذا الرأي لأنهم يرون أن رخص الأيدي العاملة يقلل من التكلفة ويساعد على الرواج. المغالطة من وجهة نظري في هذه المقولة هي أن الذي يساعد على الرواج هو انخفاض تكلفة الإنتاج وليس رخص الأيدي العاملة. الفرق بين الاثنين هو أن رخص تكلفة الإنتاج تؤدي إلي زيادة القدرة التنافسية ويؤدي إلى الرواج أما رخص الأيدي العاملة يقلل القوة الشرائية للمجتمع وهذا يؤدي إلي التدهور الاقتصادي. الدليل على ذلك هو أنه في الدول المتقدمة تجد الأجور مرتفعة والقدرة التنافسية للبلد عالية أما الدول الفقيرة فالأجور فيها منخفضة جدا والقدرة التنافسية منخفضة. فلو كانت العلاقة بين التقدم الصناعي للدول و الأجور طرديه لكانت زيمبابوي في أعلى قائمة الدول الصناعية و أمريكا في أسفل القائمة. لكن وجدنا أن العلاقة عكسية وهذا يجعل من المنطقي الاعتقاد بأن رخص الأيدي العاملة هو دليل علي التخلف الصناعي و أن دفع الأجور علي للانخفاض يسبب الانهيار الصناعي. هذا يفسر ما قاله الصناعي ألأمريكي هنري فورد عندما رفع أجر العمل من دولار إلي خمسة دولارات. وقال فورد قولته الشهيرة والتي معناها كيف أتوقع أن أبيع السيارات التي ينتجها مصنعي إن لم أعطي العمال الأجر الذي يتمكنوا به من شرائها.
ربما يقول قائل أن هذا الطرح غير منطقي لأن رخص العمالة يزيد القدرة على المنافسة. نقول الذي يزيد القدرة على المنافسة هو رخص تكلفة الإنتاج للفرد أو ما يسمي (High Human Capital) أو (High Productivity). نعم العمالة الرخيصة تخفض التكلفة قليلاً لكنها تضعف السوق المحلي وتثبط الهمم لاختراع تقنيات جديدة. بدون هذه التقنيات تقل القدرة التنافسية للدولة حتى وإن كانت تكلفة العمالة تصل إلي العدم.
لكي نثبت هذه النظرية سنأخذ بلدين تتماثل جميع العوامل فيما عدا سعر العمالة ونبحث عن مستوي التقدم الصناعي في كلا البلدين ونرى من منهم كان متقدما على الآخر. المثال هو أمريكا الفدرالية المتمثلة في ولايات الشمال وأمريكا الكنفدرالية المتمثلة في الولايات الجنوبية وذلك في عام 1860 عند بداية الحرب الأمريكية الأهلية. جميع الولايات، جنوبية أو شمالية، كان فيها نفس النظام السياسي والاقتصادي ونفس القوانين والحريات. أي أنهم كانوا متماثلين في كل شيء. الاختلاف الوحيد هو أن الجنوب كانت الأجور فيه رخيصة جداً يسبب وجود عدة ملايين من العبيد يعملون لأسيادهم بدون أجر، أما الشمال فكان يعتمد غلي الأحرار من العمال ذو الأجور العالية نسبياً. بالرغم من رخص العمالة في الجنوب وجدنا أن الجنوب كان متخلف صناعياً عن الشمال، وكان هذا التخلف من أسباب هزيمته في الحرب الأهلية، بالرغم من شجاعة الجنوبيين الأسطورية في مواجهة الشمال. لو كان رخص العمالة يؤدي إلي النهضة الصناعية لكان الجنوب أكثر تقدما وانتصر في الحرب الأهلية و لكان لدينا دولتان أمريكيتان بدلا من واحدة.
الحقيقة أن رخص العمالة كان السبب في تأخر الثورة الصناعية لأكثر من 2000 عام. فالمحرك البخاري (Steam Engine) لم يخترع في القرن الثامن عشر، إنما الحقيقة التي لا يعلمها كثير من الناس أن المحرك البخاري أخترع أيام الإغريق كما ذكر الكاتب الإغريقي "هيرو" في المخطوطة التي اكتشفت في الإسكندرية. و كان هذا المحرك يستخدم في فتح أبواب المعابد،
صعوبة الآلة البخارية تنبع من الحاجة إلى نظام ميكانيكي معقد يمكن به تسخير واستعمال هذه الطاقة. فهل يا ترى كان هذا هو سبب عدم تطوير الآلة البخارية أيام الإغريق؟ الجواب على غير المتوقع هو لأن الإغريق كانت لديهم القدرة على صنع هذه النظم فلقد قاموا بصنع نظم ميكانيكية أصعب و أعقد من التي يتطلبها المحرك البخاري. لقد قاموا بصناعة أوناش قادرة على القبض علي سفينة من سفن الرومان العملاقة ورفها عشرات الأمتار و إلقائها في البحر. من يستطيع أن يصنع آلة بهذه الضخامة هل يعجز عن تصنيع نظام ميكانيكي صغير لآلة البخار؟ الجواب لابد أن يكون لا.
إذا لماذا لم يطور الإغريق هذه الآلة لكي تستعمل في الأغراض الصناعية والنقل؟ الجواب هو وجود العبيد. لقد كانت تكلفة العبيد رخيصة لدرجة أنه لم يكن مفيد اقتصادياً أن تستعمل الميكنة. مثلاً استخدام العبيد لتشوين القمع في الصوامع كان أرخص من استعمال روافع مثل التي استخدمت لتدمير السفن الرومانية. هذا يثبت أن رخص الأيدي العاملة كان سبباً رئيسيا للتخلف الصناعي.
حدث نفس الشيء أيام محمد علي عندما عرض عليه استعمال آلة حلج القطن فرفضها قائلاً انه أرخص له أن يستعمل فلاحين للحلج بدلا من استعمال هذه الآلة. معنى ذلك أن محمد علي آثر تخفيض التكلفة باستعمال أيدي عاملة رخيصة بدلاً من زيادة ألإنتاجية باستخدام التكنولوجيا الحديثة. لو عرفت أن صناعة المنسوجات كانت المكون الأكبر للتبادل التجاري الدولي لأدركت الخسارة القاتلة للصناعة المصرية بسبب هذا القرار من محمد علي والتي لم تتعافي من آثاره الصناعة المصرية حتى يومنا هذا. لم تستطع الصناعة المصرية المنافسة أمام الأجنبية وفي النهاية اضمحلت وتأخرت.
ربما يقول قائل: إذا كان التقدم الصناعي مرتبط بزيادة سعر العمالة، فلنرفع سعر العامل إلى مليون جنيه في الشهر ونحقق نهضة صناعية أكبر من أمريكا. الأمور ليست كما يتخيل البعض. حينما نقول أن اليد العاملة رخيصة نقصد أنها تفرض عليها الرخص بقوي خارجية لا علاقة لها بقوانين وقوي السوق. هذا يحدث في حالة العبودية أو الإقطاع (serfing) أو سيطرت الدولة علي الاقتصاد في النظم الشمولية. للأسف في الوقت الذي كان فيه الغرب يتخلص من النظام الإقطاعي (serfing) كان محمد علي ينشأ هذا النظام في مصر. ولقد استمر إذلال الفلاح المصري منذ عصر محمد علي وحتى قيام الثورة.
العامل الثالث هو أنه بالرغم من ذكاء محمد علي الشديد إلا أنه لم بكن مثقف ذو خيال. كان محكوم بتجربته الشخصية. وحيث أن التجارب الشخصية لأي فرد محدودة كان خيال محمد علي وإدراكه بطبيعة الأمور وتأثيرها محدود. مثلاً لم يكن يدرك أهمية الحرية للنهوض بالمجتمع مثل ما أدركها جفرسون وفرانكلين عند قيام الثورة الأمريكية. لم يكن يدرك أهمية المساواة بين أفراد الشعب كما أدركها الفرنسيين. لم يكن محمد علي إلا حاكم تركي متنور يحاول أن يقلد الدول الأوربية ولقد نجحت تجربته بسبب عزيمته ولكن تجربنه الصناعية لم تكن لديها العمق السياسي أو الاجتماعي لكن تنهض بأمة. لم يحيط محمد علي نفسه بمثقفين مبدعين كما حدث مع جورج واشنطون عندما كان يحيط به عباقرة من أمثال هاملتون وماديسون وجاكسون والذين صاغوا دستوراً قاد دولة زراعية تعداد سكانها 3 ملايين نسمة لكي تصبح أقوى وأغني دولة في التاريخ. لأن محمد علي كان دكتاتوراً يتخذ القرار وحدة فإن ثقافته المحدودة بتجربته أثرت سلبياً علي قراراته. لو كان ديمقراطياً لأمكن تلافي هذا النقص. لو كان هناك مؤسسات مدنية مثل الجمعيات العلمية أو الصناعية لأمكن سد الثغرات في قرارات الحكومة. لكن هذا لم يوجد فكان التقدم مرتبط بما يقتنع به محمد علي نفسه بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى.
العامل الرابع هو اعتماد مصر علي الخبرات الفرنسية في التحديث وليس الخبرات الإنجليزية. عندما أراد محمد علي تحديث الجيش كان لابد أن يستعين بخبراء أجانب. كان غالبية الخبراء في البداية من الإيطاليين، لكن بعد زيارة البعثة الفرنسية لمصر في عام 1824 أصبح معظم الخبراء الأجانب من فرنسا. المشكلة مع فرنسا أنها كانت دولة متخلفة صناعياً في هذا الوقت. ففرنسا لم تدخلها الثورة الصناعية إلا بعد عام 1852 عندما تولي الحكم نابليون الثالث. أما قبل ذلك فكانت لا تختلف كثيراً عن الدول المتخلفة الأخرى. من هنا لم تأخذ الصناعة الاهتمام الكافي وإن كانت الفنون والآداب قد تطورت نتيجة لهذه العلاقة.
من هذه المقالة يبدوا أن تدهور الصناعة المصرية في نهاية عهد محمد علي كانت قدراً لا فكاك منه لأن مقومات إنشاء مجتمع صناعي متطور له قدرة ذاتية علي الاستمرار لم تكن موجودة. إن لم تكن هذه المقومات موجودة فهل وجدت بعد ذلك؟
بعد مرض محمد علي حكم أبنه إبراهيم لعدة أشهر، بعدها تولى الحكم الخديوي عباس حلمي الأول الذي أعقبه الخديوي سعيد ثم إسماعيل ثم توفيق ثم عباس حلمي الثاني. الفترة بين عباس حلمي الأول و عباس حلمي الثاني هي حوالي 75 عاماً. بعد تولي عباس حلمي الأول السلطة قام بهدم كل ما قام به جده محمد علي من تطور: فقام بإغلاق المدارس والمصانع والمرافق الصحية. بذلك تدهورت حالة مصر الصناعية وضاعت إنجازات محمد علي.
يمكن أن نحصل علي صورة حقيقية للحالة الصناعية في مصر بعد محمد علي، وذلك بأن نفحص ونقيم المعروضات التي شاركت بها مصر في معرض الصناعات الدولي المقام في لندن في عام 1851. قامت الجمعية الملكية للفنون بإنجلترا بتنظيم معارض للصناعات لإحساسهم بتندي مستوي التصميم للصناعات البريطانية. هذه الجمعة هي جمعة خاصة كانت تقيم هذه المعارض لتشجيع الصناعات الإنجليزية وزيادة قدرتها التنافسية وتنميتها بالإضافة إلي تبادل الأفكار والخبرات بين الشركات والهيئات المشاركة في المعرض. في هذه المرة دُعِيَ لهذا المعرض بعض الدول الأجنبية ومنها مصر. أشتمل المعرض على 30 جناح كلها تقع تحت واحد من الأقسام الستة التالية: (1) المواد الخام، (2) الآلات، (3) المنسوجات، (4) المنتجات المعدنية والسيراميك، (5) الفنون الجميلة، (6) صناعات متنوعة. اشتركت مصر في هذا المعرض بعدد كبير من المعروضات. وكما هو متوقع غالبية هذه المعروضات كانت تقع تحت قسم المواد الخام مثل المعادن والمواد الزراعية كالقطن. أما المواد المصنعة فكانت من نوعية القماش، ملابس الجنود، أشرعة المراكب، سروج الخيل المطعمة بالذهب، هذا بالإضافة إلى 165 كتاب بالعربية والتركية والفرنسية صادرة من مطبعة بولاق.
حصلت مصر علي ميداليات وشهادات تقدير لمنتجات تقع تحت التصنيفات التالية: التصنيف الثالث: مواد تستخدم في الطعام؛ التصنيف الرابع: خضروات ومنتجات حيوانية؛ التصنيف السابع عشر: ورق ومطبوعات وتجليد كتب. هذه الكتب كانت من المطبوعات التي طبعت في مطبعة بولاق حتى عام 1843. كان عدد العناوين المعروضة في المعرض (165) هو حوالي ثلثي المطبوعات البولاقية التي طبعت في المطبعة حتى عام 1843 وهي 248 عنوان. سبب اهتمام الإنجليز بالمعروضات المصرية هو اهتمام الإمبراطورية البريطانية بالدراسات الشرقية وإنشاء أقسام لها في المؤسسات التعليمية مثل كلية الملك (King’s College) وكلية الجامعة (University College). كانت هذه الكتب بمثابة كنز لمكتبات هذه الكليات. مصر في ذلك الوقت لم تكن مستعمرة بريطانية بل دولة شبه مستقلة تابعة للدولة العثمانية.
الملاحظ أن مصر لم تعرض أي شيء خاص بالصناعة أو الماكينات. كل ما عرض هو من عينة المواد الخام ومنتجات استهلاكية مثل الأقمشة. هذا يوضح أن مصر لم تكن دولة صناعية، بل دولة زراعية في طريقها إلي الانحدار.
بعد وفاة عباس حلمي الأول تولى الحكم الخديوي سعيد والذي لم يفعل شيء لمصر غير توقيع عقد حفر قناة السويس والسماح بالسخرة للفلاحين في حفرها. من الناحية الصناعية لم يكن هناك تقدم يذكر.
خلف الخديوي سعيد الخديوي إسماعيل. أراد إسماعيل أن يجعل مصر قطعة من أوربا فبدأ ينفق ببذخ على القصور والاحتفالات. بدأ خطته بتحديث أحياء القاهرة وميادينها وإنشاء أحياء جديدة مثل الزمالك و ميدان الإسماعيلية وغيرها. تصور إسماعيل أنه يمكن أن يجعل مصر دولة متقدمة بإنشاء بعض المباني الحديثة والشوارع الواسعة، و يبدوا أنه لم يكن يدري أن ذلك لن يؤدي إلي نتيجة.
بما أن المباني والميادين ليست مشروعات إنتاجية كان لابد أن يمولها من مصدر آخر. في البداية كان القطن الذي ارتفع سعره نتيجة الحرب الأهلية الأمريكية. وعندما نضب هذا المنبع استدان من أوربا. وعندما عجز عن السداد باع حصة مصر في قناة السويس التي حفرتها مصر بدماء وعرق آلاف المصريين. وأدى ذلك في النهاية إلي وضع مصر تحت الوصاية ثم في النهاية احتلال الإنجليز لمصر بحجة حماية مصالحهم. لقد باع الخديوي إسماعيل مصر بدراهم معدودات وكان يعتقد أنه عبقري نقل مصر من أفريقيا ووضعها في قلب أوربا.
ما أشبه اليوم بالبارحة، الآن ما تعدده الحكومة المصرية من إنجازات لا يتجاوز المدن الجديدة وعدة ملايين من خطوط التليفونات وبعض الكباري والأنفاق ثم يقال لنا أننا أصبحنا دولة متقدمة لدرجة انه في مؤتمر اقتصادي عقد في القاهرة في عام 2000 أطلقنا على أنفسنا اسم "نمور النيل." المراقب يلاحظ أن مصر أصبحت على حافة كارثة التدخل الأجنبي وفرض الوصاية على مصر من الولايات المتحدة وأوروبا. الغريب أن البعض مازال يعتبر الخديوي إسماعيل حاكم ناجح لأنه بنى دار الأوبرا ولا يذكروا أنه كان السبب في احتلال مصر. وهم نفس المجموعة التي تعتبر مصر الآن في أزهى عصورها لأنها بنت مترو الأنفاق.
بعد تنحية إسماعيل لسوء أحوال البلاد والعباد تولي توفيق السلطة وقامت الثورة العرابية فاستعان توفيق بالإنجليز الذين احتلوا مصر لمدة 70 عاماً حتى خرجوا منها في عام 1956. لم تتقدم مصر في عهد توفيق أو عباس الثاني الذي خلفه وإن كانت الخدمات تحسنت لأن الإنجليز أرادوا أن يكون لديهم وسائل اتصال يمكنهم بها أن يسيطروا على مصر فقاموا بشق الطرق وإنشاء خطوط سكك حديدية لربط المن الرئيسية ومدوا خطوط التلغراف والتليفون وغيرها من الخدمات. لكن كانت الآلات والمنتجات اللازمة لتوفير هذه الخدمات تصنع في أوربا وكانت مصر دولة مستهلكة فقط.
استمر الحال في أيام عباس حلمي الثاني. بالرغم انه كان أكثر وطنية من توفيق إلا أنه لم يكن لدية التصور الذي يمكن به تحديث مصر صناعياً. كانت هذه المسألة لا تقلق أحد. كان الاهتمام الأكبر بالاستقلال و بالتغيير الاجتماعي و الثقافي، أما التطور ألصانعي فكان كأنه لا يعني أحد.
يمكن أن يفهم عدم الاهتمام بالصناعة بفحص تركيبة المجتمع المصري في هذا الوقت. كان الأغنياء من الإقطاعيين لديهم المال الذي يمكنهم من شراء ما يحتاجون أو يريدون من أوربا. أما الفقراء فكان كل همهم هو توفير لقمة العيش ولا يطمحوا في أكثر من ذلك. أما الخديوي فمشغول بدسائس ومؤامرات القصر والوزراء والإنجليز. لذلك لم يكن لدى أحد الوقت ليفكر في هذا الموضوع، ولما كان لا توجد في مصر منظمات مدنية قوية مهتمة بدفع مشاريع التصنيع، كما كان ولا زال يحدث في دول أوربا، فكانت مسألة التصنيع غير واردة في حسابات الطبقة الحاكمة.
هناك ملاحظة أخيرة يجب ذكرها وهي أن الدخل القومي المصري تضاعف 12 مرة خلال هذه الفترة. يرجع هذا الي تحسين أحوال المواصلات والري والخدمات. كان الإنجليز وراء هذا التحسن حتى يستطيعوا السيطرة على البلاد. لكن التقدم الصناعي كان محدود، لذلك استمرت مصر دولة متخلفة بالرغم من زيادة الدخل القومي. هذا يوضح أن الاقتصاد الخدمي لا يطور أي دولة ولكنه التطور الصناعي الحقيقي هو الذي يؤدي إلى ذلك.
استقبلت مصر الحرب العالمية الأولي وهي في حالة تخلف صناعي وكأنها تراجعت عشرات السنين عن أيام محمد علي، فما ذا حدث بعد الحرب؟.
البرنامج الصناعى المصرى فى عصر جمال عبد الناصر:
يعتبر الرئيس جمال عبد الناصر أعظم رئيس حكم مصر في تاريخها الحديث. ربما يختلف البعض معه، لكن حجم تأثيره على النظام السياسي والاجتماعي في مصر والعالم لا يقل عن تأثير محمد علي على مصر ومنطقة الشرق الأوسط أو تأثير نابليون على مصر وأوربا في بداية القرن التاسع عشر. أوجه الشبه بين هؤلاء الرجال كبيرة لدرجة أنك لو أبدلت أحدهم مكان الآخر لما اختلفت النتيجة.
أول أوجه الشبه بين هؤلاء هو أنهم عسكريون محبوبون من عامة الشعب، قاد كل منهم بلده نحو تغيير جزري غير مجري الحياة فيها. لذلك يعتبر كل واحد منهم أنه قد دشن بداية عصر جديد غير موازين القوى في منطقته. هذا التشابه بينهم لا يمنع وجود خصوصية لكل منهم ساعدته على بلوغ ما بلغ. فمحمد علي مثلاً كان داهية استطاع استمالة قلوب أعيان مصر لكي يفرضوه والي على مصر. بعد ذلك استطاع أن ينال شبه استقلال عن تركيا. أما نابليون فكان عبقرية عسكرية لا يجود التاريخ بمثلها إلا كل ألف عام، فهو ثالث عبقرية عسكرية في تاريخ البشر بعد الإسكندر الأكبر المقدوني وهانيبال القرطاجي. أما عبد الناصر فهو ثوري من الدرجة الأولى، خطط ونفذ لثورة غيرت وجه العالم الثالث. عبد الناصر لم يتربع على السلطة بتعين من سلطان، مثل محمد علي، ولم يركب موجة ثورة كانت قد قامت ونجحت مثل نابليون، بل كان هو المخطط والمنفذ للثورة. هذا بالإضافة إلى أن جمال عبد الناصر كان طاهر اليد غير قابل للإفساد (incorruptible)، كما ذكرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
كل منهم غير بطريقته الخاصة السُلم الاجتماعي في بلده. محمد علي فتح الباب أمام المصريين لتولي مناصب ومهام مهمة أدت في النهاية إلي تمصير الحياة السياسية والاجتماعية في مصر بعد أن كانت الطبقة السياسية والاجتماعية المسيطرة من قبل مقصورة على العثمانيين و المماليك. لولا محمد لما انتهي عصر المماليك إلي غير رجعة. أما نابليون فأنهي إلى الأبد سيطرة طبقة النبلاء في أوربا. لقد فتح الباب أمام كثير من عامة الشعب في مناصب عليا في الجيش والإدارة. فتح الباب أمام المواهب من غير طبقة النبلاء وساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات فأعاد البنية الاجتماعية لفرنسا. تجد مثلاً أنه قام بترقية بعض الجنود برتبة رقيب إلى رتبة جنرال بسبب كفاءتهم، بالرغم أنهم كانوا من عامة الناس. ما كان بإمكان هؤلاء الجنود الوصول إلى هذه المراتب في المناصب لولا نابليون. حول نابليون عامة الشعب من رعايا (subjects) إلى مواطنين ذو سيادة (sovereigns). أما عبد الناصر فحرر البلد من الاستعمار وقضى على الإقطاع وحول كذلك الشعب من رعايا عبيد إحسانات العائلة المالكة والإقطاعيين إلى شعب ذو سيادة. ولكي يكرس هذه السيادة فتح التعليم لكل فئات الشعب وخلق جيل من المتعلمين لقيادة النهضة في مصر. الطبقة الحاكمة الآن هي من الجيل الذي فتح له عبد الناصر التعليم في كل مراحله بعد أن كانت في معظمها من طبقة الملاك. بالرغم من فساد الطبقة الحاكمة الآن في مصر، فهذا فساد فردي وموجود في كل الطبقات كما هو الحال في الدول الغربية. أي أنه ليس فساد طبقي مثل فساد طبقة النبلاء مثلاً. الفساد الطبقي يتحول إلي حق لهذه الطبقة تدافع عنه ولا تتخلى عنه طواعية. الفساد الطبقي يخلق له شرعية مثل حقوق طبقة النبلاء أو المماليك أو العائلة المالكة أو الكهنة ورجال الدين.
كان الثلاثة إصلاحيين ذوي رؤى إصلاحية محددة ومدروسة. محمد علي نظم الجيش والدولة بطريقة عصرية نقلت مصر إلى نهضة حضارية لم يصل إليها كثير من شعوب العالم إلا بعد قرن ونصف من الزمان. بل يمكن القول أن هذه النهضة كانت الأساس الذي بنى عليه العرب وكثير من المسلمين صحوتهم فيما بعد.
أما نابليون فقد بني الدولة الفرنسية الحديثة ووضع لها دستور مدني حديث (Code Napoléon) هذا الدستور تبنته كثير من الدول مثل إيطاليا وأسبانيا ومصر وبعض دول أمريكا اللاتينية وولاية لويزيانا الأمريكية وولاية كيبك الكندية. نابليون لم يساهم فقط في نهضة فرنسا الحضارية بل ساهم في نشر مبدأ الحرية والعدالة في كثير من دول العالم. الجدير بالذكر هنا أن نوضح أن مبادئ الحرية والمساومات كانت مدونة في الدستور الأمريكي قبل بزوغ نجم نابليون، ولكن أمريكا كانت بعيدة ومنعزلة عن العالم القديم. لذلك تأثير أمريكا لم يشعر به العالم القديم إلا في بداية القرن العشرين ثم أصبح بعد ذلك هو المهيمن بعد الحرب العالمية الثانية.
أما عبد الناصر فقضى على تحالف ثلاثي تشابكت مصالح أعضائه مع بعضها، ولم تكن مصلحة الشعب حاضرة إلا بالقدر الذي يخدم مصالح هذا التحالف. هؤلاء الثلاثة هم الإنجليز والقصر والأحزاب التي تمثل الإقطاعيين. كلنا يعلم كيف كان الملك والإنجليز يحاربون طلعت حرب. كلنا يعلم كيف فرض الإنجليز النحاس باشا كرئيس للوزراء بعد أن كان عدوهم. كلنا يعلم كيف كان الإنجليز يتآمرون مع الملك ضد الوفد ثم كيف تآمروا مع الوفد ضد الملك وكل هذا على حساب الشعب. التحالف بين الثلاث مثل التحالف بين المماليك والعثمانيين. فكما كان حلف المماليك والعثمانيين لا يستطيع كسره إلا شخص في ذكاء محمد علي، كذلك كانت التحالفات بين الملك والإنجليز أو الإنجليز والأحزاب السياسية يصعب كسرها إلا من شخص في ذكاء عبد الناصر. أذاب عبد الناصر الفوارق بين الناس، ليس فقط بمرسوم منع الألقاب المدنية ولكن بتثبيت ذلك على أرض الواقع بإتاحة التعليم للجميع و فتح فرص متكافئة أمام جميع أفراد الشعب. ما فعله عبد الناصر ما كان ليحدث من تلقاء نفسه نتيجة التطور الاجتماعي الطبيعي مهما ادعي أعداء عبد الناصر وذلك نتيجة للتحالفات التي كانت قائمة والتي خلقت لنفسها شرعية تمكنت بها أن تزيح أعدائها أو أن تجذبهم لها. الوفد كان حزب الشعب وضد الإنجليز لكننا وجدناه يتحالف مع كبار الملاك والإنجليز. أصبح الوفد في الأربعينيات من القرن الماضي يستمد شرعيته من كبار الملاك وليس من عامة الشعب وهذا ما جعل الشعب يلتف حول الثورة عند قيامها ويترك الوفد.
وجه الشبه بين العمالقة الثلاثة لم يقتصر فقط على إنجازاتهم بل وصل إلي تشابه قدراتهم العقلية والنفسية. الثلاثة كان لديهم قدرة فائقة علي قراءة الماضي واستيعابه لتغير الحاضر. ألثلاثة أيضاً فشلوا في استشراف المستقبل. لذلك تجد أن مسيرتهم متطابقة. الثلاثة خططوا ونجحوا في البداية نجاح فاق التصور وأذهل الجميع. هذا النجاح شجع ثلاثتهم على انتهاج الحكم الفردي، ولما لا، أليست لديهم قدرات تفوق قدرات الآخرين؟ أليس من الطبيعي أن يُترك للناجح أن يقود الآخرين؟ الثلاثة أيضاً أصابتهم الهزائم وماتوا وهم في قاع الهزيمة.
لو نظرنا لوجدنا أن أسباب الهزيمة واحدة وبنفس الطريقة. السبب في النهاية يمكن أن نعزوه إلى عدم قدرتهم على استشراف واستشفاف المستقبل. أما الهزيمة فكانت متماثلة، لم تكن من الداخل بلا كانت بقوى من الخارج. الهزيمة من الداخل تكون بسبب ضعف الحاكم ووجود فراغ في السلطة، أما الهزيمة من الخارج فتكون بسبب الفشل في استشراف المستقبل ومتغيراته والاستعداد له. هذه النقطة سنوضحها أكثر عند حديثنا عن الجانب الصناعي في القضية. في النهاية القدرات الصناعية لأي بلد هي التي تخلق القدرات العسكرية التي بها يتحقق النصر.
قدرة عبد الناصر على استيعاب الماضي مكنته من معرفة أسباب فشل ونجاح التجربتين الصناعيتين السابقتين: تجربة محمد علي وتجربة طلعت حرب. أدرك عبد الناصر أن نجاح الجيش المصري أيام محمد علي يرجع إلي تبني الدولة إنشاء مصانع حربية متطورة واستجلاب الخبرة الأجنبية لإدارة هذه الصناعات، في نفس الوقت الذي أرسلت فيه بعثات للطلبة المصريين لاكتساب العلم والخبرة في الخارج لإحلالهم محل الأجانب مستقبلاً. لكنه أدرك أيضاً أن إهمال الصناعات المدنية كان أكبر أخطاء محمد علي. أدرك عبد الناصر من تجربة طلعت حرب أن بناء مصانع لتصنيع مستلزمات البلد بدلاً من الاعتماد على الخارج هو شيء أساسي لضمان استقلال البلد. لكنه أدرك أن ترك عملية التصنيع للقطاع الخاص لن تؤدي إلي تصنيع البلد بالصورة التي يحقق بها الاكتفاء الذاتي. لذلك قام عبد الناصر بدمج التجربتين: أنشأ المصانع الحربية واستقدم بعض العلماء والمهندسين الألمان، الذين لا يجدون عمل بسبب ارتباطهم بألمانيا النازية، للعمل في المصانع الحربية لتطوير صناعة مصرية حربية. ثم أنشأ القطاع العام لتولي الصناعات المدنية الثقيلة مثل صناعة السيارات والحديد والصلب والصناعات الكيماوية وغيرها والتي ربما لن يقدم على إنشائها القطاع الخاص.
هذه الطريقة التي بدأها عبد الناصر نجحت في البداية لدرجة أنها أخافت إسرائيل. بدأت المنتجات المصرية تنزل السوق ويشتريها المصريين بدلاً من المنتجات الأجنبية. قامت مصر بتصدير فوائضها الصناعية للخارج. صدرت الأقمشة والسيارات والحديد والأسمنت. بدت التجربة المصرية وكأنها التجربة الرائدة في العالم الثالث والتي فكرت كثير من الدول في اقتنائها. وفعلاً قامت كثير من الدول بالسير على نفس التجربة في العالم العربي والعالم الثالث. أستمر النجاح لفترة ثم لوحظ انخفاض الجودة ثم ترديها ثم تخلفها عن مثيلاتها من الدول الأخرى. لقد بات واضحاً بعد ذلك فشل التجربة المصرية الصناعية.
هناك تفسيرات عدة لسبب فشل التجربة، منها الحكم الفردي ومنها الفساد ومنها طبيعة القطاع العام. لكن يجب أن نعرف مثلاً أن كوريا وتايوان نهضوا صناعيا في ظل الحكم الفردي. أما الفساد فموجود بدرجات متفاوتة في كثير من الدول الصناعية التي لم تفشل تجربتها. أما تفسير الفشل بأنه نتيجة حتمية لطبيعة القطاع العام فيكفي أن نعلم أن كثير من الصناعات المتطورة في فرنسا وألمانيا وإنجلترا قطاع عام ولم تفشل التجربة الصناعية عندهم. مما لاشك فيه أن الفساد والحكم الفردي يؤثران سلبا على التنمية الصناعية لكن التجربة الصناعية كان يمكن أن تنجح كما نجحت تجارب أخرى تعاني من نفس المشاكل.
الواقع أن سبب فشل تجربة عبد الناصر الصناعية هو عدم تمكنه من استشراف تأثير حدث وقع في أمريكا في عام 1948 على الصناعة في المستقيل. لو أدرك عبد الناصر أهمية هذا الحدث لكانت مصر الآن في وضع أفضل من وضع كوريا الجنوبية. في عام 1948 أعلن العلماء براتن وباردين و شوكلي (Walter Houser Brattain, John Bardeen, and William Bradford Shockley) اختراع الترانزستور. في عام 1952 أصبح واضحاً أن هذه الصناعة سوف تغير وجه العالم. لم يدرك عبد الناصر أهمية هذه الصناعة وتعامل القائمين على الصناعة كقطعة غيار في ماكينة. لذلك كان التعامل مع هذه الصناعة هو استيراد هذه القطع من الخارج وتجميعها لتصنيع أجهزه إلكترونية. تم إنشاء شركات تجميع إلكترونية مثل شركة بنها للإلكترونيات أو شركة النصر واقتصر عملهم علي تجميع أجهزة مثل التليفزيون أو التليفون.
الفشل في إدراك أثر الصناعة الإلكترونية في مستقبل المشروع الصناعي المصري أصاب الصناعة المصرية بطعنتين قاتلتين. ألأولى هو عدم القدرة على تصميم وتصنيع منتجات حديثة متطورة ذات قدرة تنافسية (competitive innovative products). الثاني هو عدم القدرة على تصنيع خطوط إنتاج بالقدرات المحلية والتي كانت لازمة للقيام بعملية الإحلال والتجديد للمصانع بتكلفة تنافسية وبالسرعة المطلوبة لزيادة رقعة السوق.
حينما طبق طلعت حرب خطة استيراد المصانع من الخارج للتصنيع المحلي كان العمر الافتراضي لهذه المصانع يصل إلى خمسين عاماً، خلال هذه الفترة كل ما يحتاج المصنع إليه هو الصيانة العادية. لذلك لم يدرك طلعت حرب الأهمية الحيوية لإنشاء صناعات أساسية مثل المحركات وخطوط الإنتاج والتصميم. كذلك عبد الناصر لم يستطيع قراءة المستقبل ليدرك أن العمر الافتراضي للمصانع سيقل عاماً بعد عام نتيجة تزايد وتيرة التحديث للمصانع بسبب الثورة الإلكترونية. عدم وجود صناعة إلكترونية حقيقية في مصر أجبرها على استيراد هذه المصانع من الخارج ثم إحلالها بعد فترة قصيرة قبل أن تغطي تكلفتها. عندما قلت العملة الصعبة و عجزت الدولة عن تجديد المصانع بدأت الجودة تقل والمصانع تخسر والبطالة المقنعة تزيد والبلد تتأخر.
كلنا يعلم أن معظم الربح أو الثروة العائدة إلى البلد تأتي من القيمة المضافة للسلعة. لكن معظم المصريين، بما فيهم صناع القرار، لا يدركون أن عجز البلد عن إضافة هذه القيمة سببه عدم وجود صناعات إلكترونية حقيقية لكي نتمكن من تصميم أنواع جديدة من المنتجات أو تصميم وإنتاج خطوط إنتاج ذات كفاءة إنتاجية عالية يمكن بها أن ننافس الخارج. هذا يوضح مدى الهوة التي سقطت فيها البلد والتي لا يمكن لها الخروج منها مهما حاول وزراء الصناعة أن يقنعونا بغير ذلك.
في نهاية عصر عبد الناصر بدأت الأزمة الصناعية تظهر ثم حدثت نكسة 1967 وبدلاً من أن تكون حافزاً للإصلاح الصناعي أصبحت عائقاً أمام التطور الصناعي. فشل مشروع عبد الناصر الصناعي نتيجة لفشله في استشفاف المستقبل. كذلك فشل محمد علي نتيجة لفشله في إدراك أن الإصلاح الاجتماعي والصناعات المدنية هما الركيزتان اللتان بدونهما لا تستطيع دولة أن تحقق وتحافظ على النصر. كذلك نابليون فشل في إدراك أنه بدون الديمقراطية لا يمكن أن ينافس دول ديمقراطية مثل إنجلترا، بالرغم من أنه هو القائل "أن الدول التي لديها ثقافة أعلى هي التي تنتصر في النهاية." بنفس الطريقة نجح العمالقة الثلاثة وبنفس الطريقة فشلوا.
إن كان مشروع عبد الناصر الصناعي قد فشل، فماذا فعل السادات لتطوير الصناعة المصرية؟
أنور السادات طاووس بلا ريش
في عهد الرئيس السادات انهارت الصناعة المصرية ووصل الاقتصاد المصري إلي أدنى مستوياته. فاحتياطي العملة الصعبة تلاشى لدرجة أن وزير المالية كان يبحث في البنوك عن بضعة ملايين من الدولارات قد تكون منسية هنا أو هناك لدفع فوائد الديون المتزايدة. وكما ذكر وزير المالية في عهد السادات أنه تذكر أن هناك 4 مليون دولار في البنك باسم السادات تبرع بها احد أمراء الخليج للمجهود الحربي، فقام الوزير بسحبها لدفع جزء من فوائد الدين، وبسبب هذه الواقعة اتهم بعض الناس السادات وقتها بأنه يختلس نقود التبرعات العربية. هذه الواقعة تجسد حجم الانهيار المالي الذي كانت تعانيه مصر في ذلك الوقت. السؤال الآن هو: كيف ولماذا وصلت مصر إلى هذه الحالة المزرية؟ في حين أنه أيام إعادة بناء القوات المسلحة في عصر عبد الناصر لم تكن الحالة بهذا السوء.
دراسة الوضع المصري في ذلك الوقت يشير إلى أن السبب في ذلك التدهور لابد أن يرجع إلى إمكانيات السادات العقلية والثقافية والشخصية. لذلك إذا تمكنا من معرفة مفتاح شخصية السادات فسنعرف سبب التدهور الصناعي والاقتصادي في مصر.
يمكن أن نلخص شخصية السادات كالآتي: رجل ميكيافلي جرئ مع نرجسية لا يدعمها مظهر أو جوهر، أي أنه باختصار يشبه طاووس بلا ريش. هنا الميكيافلية ليست بمعناها القبيح التي يمكن أن تدمر الآخرين في سبيل المصلحة.
ربما اعترض معترض قائلاً: "لماذا اعتبرت أن شخصية السادات هي مفتاح معرفة سبب التدهور في عصره، بينما لم تقل ذلك في حالة عبد الناصر؟ ألم يكن عبد الناصر الآمر الناهي أثناء حكمه أكثر مما كان السادات؟ ولماذا كانت نرجسية و ميكيافلية السادات فقط هي المؤثرة في قراراته بينما لم تذكر أن شخصية عبد الناصر كانت أيضاً مؤثرة في قراراته؟
في الحقيقة هذه اعتراضات وجيهة ويجب الرد عليها لتوضيح الأمور. عبد الناصر كان ثائراً قام بالثورة لتحقيق برنامج واضح بينت تفاصيله في عدة وثائق مثل فلسفة الثورة والميثاق، أما السادات فلم يكن له برنامج محدد. لذلك في عصر عبد الناصر كان برنامج الثورة يطبق، سواء اتفقنا على جدوى هذا البرنامج أم لم نتفق. من هنا كان تقيمنا لمرحلة عبد الناصر هي تقييم فكر وبرنامج، وحيث أن الأمور كانت في يد عبد الناصر، حُمِل هو مسؤولية عدم القدرة على تحديث الصناعة المصرية لتصبح قريبة من مستوي الصناعة في الدول المتقدمة. أما في حالة السادات فلم يكن لديه برنامج، ومن هنا كان المحرك الرئيسي لقراراته هي شخصيته وطموحاته وقدراته العقلية والثقافية وقناعته المتولدة من كل هذه العوامل. بذلك تصبح دراسة شخصيته هي المفتاح لتفسير كل ما حدث للصناعة المصرية.
لكي نعرف شخصية السادات دعنا نتتبع سيرته. السادات من عائلة متوسطة، التحق بالكلية الحربية وتخرج منها ضابطاً. لكن يبدو أن طموحه كان أكبر من أن يكون ضابط في الجيش. لذلك اشتغل بالعمل السياسي السري حتى يبلغ ما يطمح إليه. هذا أدي إلى اشتراكه في مؤامرة اغتيال الوزير أمين عثمان. لكنه لم يكن من ضغط على الزناد، بل حاول بقدر المستطاع أن يبعد نفسه عن مسرح الجريمة. هذه الفعلة تكشف الجانب الطموح المغامر بحذر. كان السادات عضوا في الحرس الحديدي للملك وفي نفس الوقت كان من أعضاء الثورة ويبدوا أنه كان يمد الملك ببعض المعلومات عن الضباط الأحرار ولكن ليس بالدرجة التي تفشل الثورة. هذا يؤكد ميكيافلية السادات والتي لم تكن من النوع القذر وهذا يعني أنه كان أيضاً يحب بلده ويكره الإنجليز والمتعاونين معهم.
في يوم قيام الثورة ذهب السادات إلي السينما وتعارك مع بعض الناس وأصر أن يثبت ذلك في محضر البوليس، فهل يعقل أن يذهب أحد المخططين للثورة السينما قبل ساعة الصفر بثلاث ساعات. التفسير المنطقي لهذا التصرف هو أنه كان يريد أن يحتاط عند فشل الثورة، كما فعل عند مقتل أمين عثمان. هذا يدعم رأينا أن السادات كان يعمل لطموح شخصي أكثر منه لفكرة يؤمن بها.
بعد نجاح الثورة تغير أسلوب السادات. فبعد أن كان ثائراً على الظلم والفساد والإنجليز استمر قي الحكم مهادنا عبد الناصر وارتضي من المهام أقلها بريقاً ونفوذاً علي أن يبقى من رجال السلطة. لم يعترض على ما كان يراه من مساوئ في النظام. لو كان المبدأ هو الأهم لاختلف مع عبد الناصر كما اختلف معه بعض أعضاء الثورة مثل خالد محي الدين.
بعد وفاة عبد الناصر كان أول شيء أعلنه هو أنه سيسير على خط عبد الناصر. بعدها أكتشف الشعب أن هذا الوعد ليس صحيح لدرجة أنهم وصفوا مقولته بأنه "يسير على خط عبد الناصر بأستيكة (ممحاة)؟. بعد أن استتب الأمر له قام بتغيير نهج مصر كلية، انتهج سياسة الانفتاح الفوضوي بدلا من التخطيط المركزي؛ عادى الروس الذين كانوا يساعدونه وتصادق مع الأمريكان الذين كانوا يساعدون عدوه؛ تصالح مع الإسلاميين وعادي الوطنيين والاشتراكيين؛ ترك أعداء عبد الناصر ليهاجمون الثورة ومبادئها، في حين أودع خصومه السجن حينما انتقدوه. هذه القرارات كانت كارثية: أضعفت مصر وكانت ستؤدي إلى إفلاس البلد. السؤال الآن هو لماذا انقلب السادات 180 درجة علي مسيرة الثورة التي شارك فيها والتي يستمد منها شرعيته؟
التفسير المقبول لهذا التصرف هو أن السادات تصرف كما تصرف كثير من الحكام من قبل عندما يرثون زعيم كارزمي توفي قبل أن يحقق أهدافه أو تعثرت مسيرته. في هذه الحالة الحكام الجدد ينظرون إلي الأمور بمنظور مفهوم المخالفة وهو "إن أدي عمل ما إلي نتيجة ما فعكس العمل يؤدي إلي عكس النتيجة". اعتقد السادات أن الاشتراكية هي سبب الفشل فآمن أن الرأسمالية هي الطريق إلى النجاح؛ تصور أن القطاع العام الموجه هو سبب البؤس فاعتقد أن القطاع الخاص الحر هو الأمل في الرفاهية؛ تخيل أن التخطيط المركزي هو المشكلة فسكن في قراره أن الانفتاح الفوضوي هو الحل؛ توهم أن الروس هم سبب عدم حل المشكلة مع إسرائيل فراهن على أن مفتاح الحل مع أمريكا.
بقراءة التاريخ نجد أن هناك حكام تصرفوا مثل السادات وكانت نتيجة تصرفهم مثل نتيجة تصرف السادات. مثلا، الخديوي عباس الأول فعل مثل السادات فقام بعكس كل قرارات محمد علي التقدمية فكانت النتيجة انهيار مصر واحتلالها. كذلك فعلها جربوتشوف في الإتحاد السوفيتي بالرغم أنه امتداد لبرجنيف. جربوتشوف لم يتعلم من فشل السادات بل قلده في مسألة الانفتاح فكانت النتيجة انهيار الإتحاد السوفيتي أقوي دولة في العالم. أي أنه في كل هذه الحالات النتيجة واحدة: انهيار الوضع الاقتصادي وفقدان الدولة هيبتها داخليا وخارجيا. هذا الخطأ الكارثي لا يقع إلا من دكتاتور محدود الثقافة معجب بنفسه فلا يسمح لمستشار أن ينصحه ولا يجد مخزون ثقافي يستعين به ولا يشعر حتى بهاجس يدفعه إلي توخي الحذر.
السادات أعلن أنه يسير على خط عبد الناصر حتى يعطي نفسه الشرعية، ثم خاض حرب أكتوبر بتجهيزات وخطة عبد الناصر و أنكر دور عبد الناصر و حتى دور من خطط للحرب وقادها وهو الفريق الشاذلي. ولكن لأنه مغامر شن الحرب والتي بسبب تدخله كانت ستؤدي إلى كارثة أكبر من كارثة 67، اقرأ كتاب الفريق الشاذلي المنشور في هذه الجريدة في أعداد سابقة. بعد حرب أكتوبر زادت نرجسية السادات وبدأ يؤمن بنظريات و يصدق أنه هو الذي اخترعها. كان أولها أنه انتصر في حرب أكتوبر بدون مساعدة السوفيت، وهذا ليس صحيحاً. وثانيها أن الانفتاح سيأتي بالرخاء وهذا لم يحدث. وثالثها أن الصدمة النفسية والعصبية التي أحدثها في العالم بزيارته لإسرائيل هي التي أجبرت إسرائيل على توقع صلح مع مصر وهذا غير صحيح لأنه يفترض أن زعماء إسرائيل هم قوم من السذج الذين لا يفقهون قولاً.
من هنا نقول أن السياسة الخارجية والاقتصادية والصناعية في عصر السادات كانت محكومة بعقلية وسيكولوجية السادات ولم تكن هناك خطة للنهوض بالصناعة في مصر. لذلك وجدت مصر نفسها تحت وطأت ديون خارجية وصلت إلي ما يقرب من 50 بليون دولار في الثمانينيات ولولا إعفاء جزء كبير من ديون مصر بعد حرب الخليج الأولى والمساعدات الأمريكية لأعلنت مصر إفلاسها وفرض عليها الوصاية. كثير من المصريين لا يدرك ذلك لكنها الحقيقة المرة، فهل تمكن مبارك من تصحيح ما أفسده السادات وما لم يستشرفه عبد الناصر؟
البرنامج الصناعى فى عهد مبارك
هل الرئيس مبارك دكتاتور؟ هذا سؤال لابد من الإجابة عليه قبل تحليل وضع الصناعة في عصره، وتحديد على من تقع المسئولية المباشرة، وعلى من تقع المسئولية غير المباشرة. البعض سيجيب على هذا السؤال بالإيجاب وسيطرحون بعض الأدلة منها أن الرئيس مبارك يعتلي سدة الحكم منذ ما يقرب من ربع قرن دون أي دلالة على تخليه عنها مادام حياً وهذا دليل على أنه دكتاتور. و الدليل الثاني هو إصراره علي استمرار العمل بقانون الطوارئ. أما دليلهم الثالث هو أنه جعل سلطات رئيس الجمهورية تطغى على السلطة التشريعية والقضائية. ورابعها هو حبس الصحفيين المعارضين، ومحاباة الصحفيين الموالين للحكومة والتستر علي فسادهم الذي زكم الأنفاس بلا خشاء أو حياء.
أما من يوالون الرئيس سيردون بأن الحرية في مصر في أبهي حالتها، فالصحف تقول ما تشاء وتهاجم الرئيس والحكومة ليل نهار، والأحزاب موجودة، والسفر مسموح والقطاع الخاص يعمل بحرية. فإن قيل لهم إن الوضع الاقتصادي سيء تعللوا بأن مصر دولة نامية ليس لديها موارد طبيعية، وقد دخلت أو أدخلت في حروب عدة أنهكتها. أضف إلى أن تعداد سكانها يقارب ال 80 مليون نسمة يعيشون على مساحة رقعة زراعية لا تتعدي 5% من مساحة البلد وليحمد الناس الله فلولا عبقرية الرئيس وحكمته لأصبح الوضع أسوء بكثير، ولكن عناية الله وهبت مصر رئيساً محنكاً مثل حسني مبارك.
لكي نعرف أي الرأيين حق، لابد أولاً أن نُعَرِف ما هي صفات الدكتاتور. كلمة دكتاتور يبدوا أنها مشتقه من الكلمة الإنجليزية (Dictator) وهي مشتقه من الفعل (dictate) أي يملي. فأول وأهم صفة من صفات الدكتاتور أنه يملي إرادته على الآخرين. الدكتاتور في الغالب لا يتنازل عن رأيه ولا يغيره إلا إذا أجبر على ذلك بالقوة. وزراءه بلا صلاحيات حقيقية، مهمة مساعديه هي للمصادقة على أرائه فقط، ومن لا يصادق على قرارات الزعيم يفقد الثقة ويفقد منصبه، و إن كان الاعتراض يشكك في ولاء المعترض للدكتاتور فإنه يصفى أو يسجن. أليس هذا ما كان يفعله دكتاتوريون مثل هتلر و موسوليني و ستالين و ماو؟ فهل حسني مبارك يتصرف بهذه الطريقة؟ الجواب لا. الدليل على ذلك أن مبارك حينما تولى الحكم طلب من أللاقتصاديين عقد مؤتمر للبحث عن أفضل السبل للخروج بالبلد من الأزمة الاقتصادية التي تسبب فيها السادات. انعقد المؤتمر وقرر توصيات منها: تحسين البنية التحتية وخصخصة القطاع العام، بالإضافة إلى بعض المشاريع الكبيرة مثل مترو الاتفاق وغيرها. تبنى الرئيس التوصيات وأمر بتنفيذها ولم يفرض رأيه على الوزراء.
استمر الرئيس على هذا المنوال حتى يومنا هذا، حتى عندما يتخذ رأي ثم ينصحه بعض مستشاريه بتغييره فإنه يغيره. فمثلا فكرة تعديل الدستور كانت مرفوضة منه ثم عدل الدستور، قانون منع حبس الصحفيين كان قد وعد به ولكنه لم يعرضه على مجلس الشعب بناءً على نصيحة البعض. قانون السلطة القضائية قدم ولم يعرض على مجلس الشعب بالرغم من وعد الرئيس أنه سوف يعرضه للمناقشة فور تقديمه.
الرئيس يستأثر بالسياسة الخارجية لكن الشئون الداخلية مثل الصناعة والزراعة والاقتصاد والتعليم يبدوا أنه أعطي وزرائه ومستشاريه حرية العمل والمحاولة إلى أقصى الحدود، أي أنه تبنى سياسة رفع اليد.
وزير الزراعة وعد مبارك بأنه سيحقق الأمن الغذائي لمصر في عشر سنوات فأعطاه الرئيس 18 عاماً، بعدها أصبحت مصر أكبر مستورد للقمح في العالم ولم يتدخل الرئيس. وزير الإعلام أخبره بأنه يجب أن يكون لدي مصر قمراً صناعياً لكي تحافظ مصر على ريادتها الإعلامية فخوله بإطلاق قمرين، بعدها فقدت مصر تأثيرها الإعلامي حتى أصبح مشاهدة نشرة الأخبار المصرية يصيب بالتقيؤ، ولم يتدخل الرئيس. كذلك فعل الرئيس مع باقي الوزراء، وعلى حد علمي فإن الرئيس مبارك لم يرفض أي خطة للإصلاح الاقتصادي أو الصناعي قدمت له من وزرائه. فأين هذا الدكتاتور؟
ريما تساءل البعض: إن كان الرئيس لا يفرض رأيه فلماذا يقول الوزراء عندما يتحدثون عن أي مشروع "هذا من توجيهات الرئيس أو على حسب توجيهات الرئيس، “ أليس هذا يثبت أنه دكتاتور، وان ما يحدث هو بناء على أوامره؟ في رأيي أن هذه العبارة تقال حتى تعطي الغطاء الشرعي لما يريد أن يفعله الوزير وتقوي من موقفه أمام معارضي الخطة بإخبارهم بموافقة الرئيس على الفكرة، أكثر من أنها تدل على أن الرئيس هو مهندس الفكرة وأنه قد فرض رأيه.
الرئيس رفع يده عن أمور الدولة الداخلية وتركها للوزراء والمستشارين ومسئولي الحزب في مقابل أن يعلن هؤلاء ولاءهم للرئيس. هذا لا يعني أن الرئيس لم يعطي أفكار وتوجيهات عامة مثل: يجب زيادة التصدير، أو تحسين التعليم، أو الاهتمام بمحدودي الدخل وغيرها من العبارات العامة. هذه العبارات تجعل كل ما يفعله أي مسئول من الناحية النظرية يقع تحت توجيه من توجيهات الرئيس. لذلك لم يجانب الوزير الحقيقة عندما يقول أن ما يفعله هو حسب توجيهات الرئيس.
إن اعترض معترض بأن أوامر حسني مبارك هو التي تنفذ في آخر الأمر، قلنا و كذلك جميع الرؤساء، الديمقراطي منهم والدكتاتوري، أوامرهم هي التي تنفذ في آخر الأمر ووزرائهم يقولون أن الكلمة الأخيرة هي للرئيس و أن ما يفعلونه ما هو إلا ما يريده الرئيس. الرؤساء هم المسئولون أولاً وأخيراً عن أي قرار يصدر من السلطة التنفيذية، سواء كان هم أم غيرهم من اقترحه. الفرق بين الرئيس الديمقراطي والدكتاتوري هو أن الرئيس الديمقراطي يستمع إلى آراء معاونيه ويتبنى ما يقتنع أنه الصحيح، أما الرئيس الديكتاتوري فيلقي برأيه ولا يريد من أعوانه إلا الموافقة. في حالة الدكتاتور يكون هو مسئول مسئولية شخصية عن النتائج، أما في حالة الديمقراطي فالمسئولية جماعية ومسئولية الرئيس هي في الغالب المسئولية الأخلاقية. لذلك الرئيس الدكتاتوري يمكن أن يحاسب شخصياً علي الأخطاء أما الديمقراطي فلا يحاسب شخصياً عن الأخطاء بل يترك حكمه لإرادة الشعب أثناء الانتخابات.
هل يعني ما قلناه سابقاً أن مصر هي دولة ديمقراطية؟ الجواب هو أن مصر ليست ديمقراطية كما أن الرئيس مبارك ليس دكتاتور بالمعنى المعروف في أذهان الناس. مصر هي دولة بيروقراطية محكومة بحاشية البلاط الجمهوري المكونة من الوزراء والمستشارين وكبار المسئولين في حزب السلطة. بعض أفراد الحاشية، إن لم يكن كلها، يمكن أن يكون لديهم النية للنهوض بالبلد لكن مع المحافظة على مكاسبهم الشخصية وزيادتها. وحيث أن هذه الحاشية تفتقر إلى الإبداع على المستوى المهني والسياسي والإستراتيجي، فلقد حولت البلد إلي حقل تجارب لمشاريع غبية فاشلة بناء علي أفكار أشباه متعلمين وفاسدين ولصوص. لو كان مبارك ديكتاتور لحد من هذا العبث ولو كانت مصر ديمقراطية لتخلصت من هذه العصابة بالانتخابات. لكن مصر انتهت بنظام من أسوء ما يكون: لا رئيس يتدخل لتصحيح النظام ولا نظام يضع ضوابط للعمل.
هناك نقاط تشابه بين وضع مصر الآن وضعها بعد الحرب العالمية الثانية مع الفرق الكبير بين الملك فاروق والرئيس مبارك وبين حاشية القصر الملكي والقصر الجمهوري. أيام الملك كانت مصر تحكم من ملك عاهر زاني وبحاشية من الشمرشجية والحلاقين والقوادين. أما الآن فبالرغم أن الرئيس حسني مبارك رجل عفيف وزوج وأب محترم، إلا أن الحاشية الحالية ليست أفضل فالفساد والفشل وسوء الإدارة مستشري في كلا الحالتين.
إن اعترض معترض قائلاً: أنت نصبت نفسك حكماً على هؤلاء الوزراء وهم أساتذة أفاضل ورجال
السابقة والدراية بحقيقة الوضع على أرض الواقع؟ أليس هذا أفضل سيناريو لتشكيلة الوزارة حيث تم جمع العلم والخبرة بين أعضائها؟
للرد على هذا التساؤل أقول: أنا لا أقول أن الوزراء غير محترمين بل أن كثير منهم على قدر كبير من الأخلاق. لكن دعنا ننظر إلى كيفية اختيارهم: أساتذة الجامعات يختارون على قدر ولائهم للنظام والذي من أهم شروطه هو إظهار أقل قدر من الاستقلالية في التفكير وأقل قدر من الإبداع حتى لا يغطوا على مواهب رؤسائهم. فماذا تتوقع من وزارة وزيرها هذه أهم إمكانياته. دليلنا على ذلك أنه عندما بدأ الدكتور الجنزوري رئيس الوزراء السابق العمل بشيء من الاستقلالية كان نصيبه الإقالة والدليل الآخر هو النتائج: ما هي حصيلة حكم 24 عاماً؟ ألا يدل هذا على قدرة هؤلاء الوزراء المتدنية؟ أما رجال الأعمال، نعم لقد نجحوا في القطاع الخاص ولكن في أي محيط؟ ألم يحقق هؤلاء الرجال مكاسبهم في جو يغلب عليه الرشوة والفساد والاحتكار والغش، فأي نظام تتوقع أن يستخدموه في الإدارة؟ الجواب هو النظام الذي نشأوا فيه و لديهم فيه خبرة و حققوا فيه نجاحات وهو مزيد من الرشوة والفساد والاحتكار والغش. أليس كذلك؟
نعم هناك اختلاف بين أيام فاروق والآن، لكن الاختلاف يقف عند مؤهلات الحاشية، أما النتيجة في كلتا الحلتين واحدة: تدهور الحياة السياسية والاقتصادية وزيادة الفروق بين الأغنياء والفقراء وانتشار الرشوة والفساد الإداري والمالي؛ هذا بالإضافة إلي افتقار الرؤية الإستراتيجية والعقم الفكري على كل الأصعدة و شبه فقدان للاستقلالية السياسية.
لكن من المسئول عن هذا الفساد؟ إنه الرئيس حسني مبارك. نحن لا نبرئ الرئيس مبارك من المسئولية إنه هو المسئول عن هذا الانهيار والفساد بطريقة مباشرة وغير مباشرة. إنه رئيس الجمهورية و على علم بما يحدث. الذي لا أفهمه أنه يتبع سياسة العند في تعامله مع الشعب: إن أحب الشعب شخصاً أقاله، كما فعل مع الدكتور الجنزوري وعمر موسى، وإن أبغض الشعب شخصاً تركه كما فعل مع وزير الزراعة. لعله يتبع الآية:"وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ".
دعنا الآن نعود إلى السؤال الأساسي لهذه الحلقة: ما هو البرنامج الصناعي في مصر في عهد الرئيس مبارك؟ الجواب أنه لا يوجد برنامج صناعي في مصر. كل الموجود هو مشاريع بدائية لولا أننا نعلم أنها من بنات أفكار الوزراء لقلنا أنها لا تعدوا أن تكون من أفكار محولجي سكة حديد أو عامل تليفون أو خردواتي. لكي أوضح هذه النقطة دعني أعطي عدة أمثلة.
من عدة سنوات قررت الحكومة إنشاء مشروع يسمى "شرق التفريعة." هذا المشروع قالوا عنه أنه مشروع "Re-exportation" أي إعادة تصدير. برروا المشروع بالقول: "نحن لا نستطيع منافسة الدول المتقدمة لكن نريد أن نقلد دولاً مثل تايوان وهونج كونج: نستورد البضائع بالجملة ثم نقوم بتعليبها وإعادة تصديرها". قامت الدولة بطرح عدة ملايين من الأمتار المريعة لهذا المشروع وإيصال ثم تم إيصال الخدمات له بتكلفة عدة مليارات. بعد ذلك بيعت الأرض لحيتان رجال الأعمال بسعر أقل من سعرها الحقيقي بأكثر من 100 مرة.
الآن بعد عشرة سنوات لا نعلم ماذا استفادت مصر من هذا المشروع وكيف ستسترجع تكلفة المشروع لأن أي شخص لديه الحد الأدنى من الذكاء يدرك أن هذه المصانع لا تعدوا أن تكون مصانع علب كرتون و أكياس بلاستك. هل يتصور عاقل أن بلد المنتج لا يدري كيف يضع هذه المنتجات في علبة كرتون أو كيس بلاستيك وينتظر أن تقوم مصر بهذه المهمة الشاقة!؟ هل يتصور عاقل أن الربح من كيس بلاستك أو علبة كرتون ستغطي تكلفة النقل والشحن والتفريغ من البلد ألمنتح إلى مصر ومن مصر إلى المستهلك؟ أليس هذا جنونا؟ هل أدركت الآن يا عزيزي القاري أن هذا المشروع لا يفكر فيه إلا متخلف عقلياً أو خردواتي ساذج يعتقد أن البضاعة تباع فقط لأنها موجودة في علبة كرتون أنيقة أو كيس بلاستيك نظيف و أن الدول المتقدمة عاجزة عن فعل ذلك.
المثال الثاني هو مثال القرى الذكية التي تسوق على أنها ستدخل مصر عصر ما يسمى بتكنولوجيا المعلومات وكأن تكنولوجيا المعلومات ستجعل مصر غير محتاجة للصناعات التقليدية. لكن ما هي القرية الذكية؟ هي مجموعة مباني فيها أسلاك تليفون وكابلات كمبيوتر "coaxialcables" بالطبع هذه الكابلات ستوصل ببعض الأجهزة الموجودة في دواليب الاتصالات "communicationclosets" هذا هو ما يوجد ويجب أن يوجد في أي مبنى إداري أو صناعي و لا نحتاج إلي بناء قرية لذلك. بالإضافة إلى أن هذه القرى الذكية هي للخدمات فما هي الصناعة التي سوف تخدمها؟ ألم يكن من الأجدى أن نستخدم ملايين الجنيهات التي أنفقت على هذه القرى لبناء مثلاً مصنع لتصنيع الدوائر التكاملية التي بها يمكن تصنيع أجهزة الاتصالات هذه بدلا من إنفاق ملايين الدولارات لشراء هذه الأجهزة. ألن يُمَكِننا هذا من بناء هذه الأجهزة لجعل مصر كلها دولة ذكية بدلاً من أن نكتفي بكفر أو نجع ذكي فقط؟ هل يمكن أن يخطط مستقبل مصر الصناعي حول مباني بها توصيلة تليفون وتوصيلة حاسب إلكتروني؟
المثال الثالث هو مثال من قطاع الزراعة، لكي نري أن السياسة الفاشلة في مصر لا تقتصر على الصناعة ولكنها ظاهرة عامة لا ترتبط بحقيقة أننا دولة نامية لا نستطيع أن نتنافس مع الدول الغنية. تعهد وزير الزراعة السابق بأنه سوف يحقق الأمن الغذائي في مصر. بني الوزير خطته على الآتي: زراعة محاصيل ذات قيمة تصديرية عالية يستهلك بعضها محلياً ويصدر الباقي، بعد ذلك يستخدم الربح المحقق من التصدير لشراء محاصيل ذات قيمة شرائية منخفضة. الفرق بين تكلفة التصدير وتكلفة الاستيراد سيدخل بالطبع في خزينة الدولة. لذلك قرر الوزير زراعة الفراولة والتفاح وتصديرها ثم استيراد القمح بلاً من زراعة القمح في مصر. لكن ما غاب عن الوزير هو أن الفراولة والتفاح لا تصلح أن تكون غذاء رئيسي "Stable" لأنها لا تحتوي على ما يكفي من الكربوهيدرات التي تمد الإنسان بالسعرات الحرارية اللازمة للحياة. الإنسان يحتاج إلى محاصيل مثل القمح والأرز لإمداده بهذه السعرات والتي بدونها لا يستطيع الحياة. أما الفراولة فهي مثل الجرجير والفجل تمد الإنسان بالفيتامينات ولكن سعراتها لا تكفي لحياة الإنسان. الإنسان يستطيع الاستغناء عن الفراولة وأكل الفجل بدلا منها، ولكنه لا يستطيع الاستغناء عن القمح وأكل التفاح بدلاً منه. إذاً بالله قل لي كيف يحقق الأمن الغذائي بتقليل إنتاج ما هو ضروري لهذا الأمن و إنتاج ما هو ليس بضروري له؟ الأدهى من ذلك أن مصر لم تتمكن حتى من تصدير الفراولة بسبب استخدام المبيدات المصرطنة لكن ذاد اعتمادها على الخارج لتوفير احتياج البلد من القمح. فأي أمن غذائي هذا الذي تحقق من زراعة الفراولة. وإن كانت الفراولة ذات قيمة تصديرية عالية لماذا لم تزرع أمريكا وفرنسا وأستراليا غالبية أراضيها فراولة ويصدرونها ولماذا يصروا على زراعة القمح والذرة وتصديره؟ أليس هذا جنوناً؟
ربما يقول قائل: نعم نحن نواجه صعوبات ولكننا سوف نتقدم وهناك أمل. لكن قبل أن تحدد هل هناك أمل أم لا دعني أحكي ما شاهدت على إحدى القنوات الفضائية وهو فيما يبدوا عن الإبداعات في العالم العربي. بدأ البرنامج بفقرة عن مشروع مبدع في مصر وهو أن احدي السيدات تقوم بتعليم الأطفال كيف يمكن عمل عرائس صغيرة وتماثيل من طين بحيرة قارون بخلطه على ما أعتقد ببعض القش ثم تشكيله وحرقه وتلوينه وبيعه للسائحين بعدة جنيهات قليلة. بعد هذه الفقرة عرض التلفزيون فقرة عن صناعة الماس في الخليج وكيف أن دول الخليج أصبحت من أكبر اللاعبين في صناعة الماس وان حجم هذه الصناعة يصل إلى مئات الملايين من الدولارات.
أسباب الفشل وعوامل النجاح
بقلم د:ابراهيم عبد المطلب
في عام 2001 ذهبت زوجتي لزيارة مصر بعد 8 سنوات غياب. وكالعادة، طلبتُ منها أن تحضر بعض الهدايا لكي نقدمها للأصدقاء هنا في أمريكا وأكدت عليها أن تأتي بهدايا قيمة تليق بالمقام. بالطبع نحن المصريين لا نجد ما نقدمه من هدايا إلا تماثيل لبعض ملوك قدماء المصريين أو الأهرام أو أبو الهول لأنه لا يوجد في مصر شيء يمكن أن تقول عليه أنه مصري إلا هذه المصنوعات.
عادت زوجتي والأولاد من السفر بعد ثلاثة أشهر فهالني ما رأيت من تغير في الأولاد. لغتهم تغيرت، كلما أمرتهم بشيء يقولون "ماشي". أفعل هذا، الرد "ماشي". لا تفعل هذا، الرد أيضاً "ماشي". الشيء الآخر الذي لاحظته هو استخدام جملة "إنشاء الله" للتسويف بدلاً من كلمة "لا".
بعد أن استوعبت هذا التغيير و بعد أن أخبرتني زوجتي بكل الأخبار وما جرى وما لم يجري، سألتها عن الهدايا فأجابت بفخر: "أنا جبت لك هدايا هترفع رأسك. هدايا عجبت كل اللي شافوها. ومش ها تصدق لما تشوفها. أنا جبت أغلي حاجة في خان الخليلي". عندما سمعت ذلك قلت لنفسي: " جنت على نفسها براقش. آنت السبب، كان يعني لازم تقول: هدايا تليق بالمقام. أكيد افتكرت أن المقام عالي، و بحبحت أيديها في الهدايا، وخربت الميزانية. ولكن هتعمل إيه-- لقد سبق السيف العزل."
أخرجت الهدايا وهو تقول: " شوف اللي أنا جبته، عشان تعرف مراتك شاطرة إزاي، وبتوفر لك قد إيه؟" ناولتني الهدايا وكانت مكونة من بعض التماثيل الفرعونية ومجسم للأهرام ومساطر وأقلام منقوش عليها رسوم فرعونية وغيرها من الهدايا التقليدية من النوعية الجيدة. بعد أن أعطتني الهدايا قالت: "الراجل كان طاب في التمثال ده 100 جنيه، تعرف أنا أخدته بكام؟" أجبت: "بكام" قالت : "بعشرة جنيه بس؟"
شكرت زوجتني بعد أن حكت لي بالتفصيل قصة كل هدية وسعرها الأصلي وسعرها الذي اشترت به. بعد ذلك أخذت علي إصري و جعلتني أقر بأنها وفرت لي الكثير و أشهدتني على نفسي أنني من دونها كنت أشهرت إفلاسي، فشهدت، فقالت "وأنا معك من الشاهدين".
أخذت الهدايا لأعطيها لأصدقائي. أحد زملائي في الجامعة هو الدكتور فنس ماكجن Vince McGinn"" أستاذ الكهرومغناطيسيات بالجامعة. ماكجن هذا له ابن في المدرسة الابتدائية ومهتم بحضارة قدماء المصريين ويجمع الصور والتحف والمقالات عن هذه الحضارة. حينما زرتهم في البيت أروني المتحف الصغير الذي يكونه هذا الابن. لذلك وجدت أن التماثيل التي أحضرناها ستكون هدية قيمة لابن صديقي هذا. أخذت الهدايا وذهبت إلي بيت صديقي لكي أقدم الهدايا للابن بنفسي حتى يشعر أنها هدايا له شخصيا. أعطيته الهدايا ففرح بها وانطلق إلي حجرته لكي يضيف هذه الكنوز إلي مقتنياته الفرعونية، بينما أنا جلست مع والده نتجاذب أطراف الحديث.
غاب الطفل بعضاً من الوقت ثم رجع وهو في حزن شديد مطأطئ الرأس. سأله والده: ما الخبر؟" قال الطفل: "المُدرسة في المَدرسة أمدتني بمعلومات خطأ عن الأهرام والملك توت عنخ آمون." اندهشنا لهذا القول فقلت: "كيف؟" قال: "هي أخبرتني أن الأهرام موجودة في مصر، لكن أنا اكتشفت أنها موجودة في الصين؟" اندهشنا لهذا القول، ونظر إلي والده لكي أجيب على ذلك. أحسست بالواجب القومي يناديني أن أدافع عن كرامة مصر وعن أجدادنا الفراعنة وآثارهم. أحسست أن الجميع يريد أن ينسبوا أجدادنا إليهم ويغتصبوا حضارتنا القديمة. فالإسرائيليين يدعون أن اليهود هم من بنوا الأهرامات والآن الصين تدعي أن الأهرامات موجودة في الصين. ألا يكفيهم سور الصين العظيم؟ يريدون أن يأخذوا الأهرامات أيضا! إنها فعلاً مؤامرة!
قلت للطفل: "الصين عندها سور الصين العظيم لكن مصر فيها الأهرام والملك توت." أجاب الطفل: "هذا ليس صحيح وسأثبت لك." خرج الصبي وعاد معه كيس الهدايا الذي أعطيته إياه. أخرج الهدايا ووضعها أمامي وقال: "انظر مكتوب إيه "صنع في الصين" Made in China أكيد الأهرامات في الصين. قلت موضحاً ومبتسماً: " الأهرام الحقيقية في مصر لكن التماثيل مصنوعة في الصين." قال: "لما الأهرام في مصر لماذا لا تصنعوا التماثيل في مصر؟ أنا أريد تماثيل من مصر."
حاولت أن أشرح له الفرق بين التماثيل الحقيقية والتماثيل الهدايا ولكنه بدأ يفقد اهتمامه بالموضوع وتركنا وسار خارج الحجرة. صاح والده طالباً منه أن يأخذ الهدايا فرد الصبي: "لا أريدها، إنها مزورة." قالها بالإنجليزية (It is fake). اعتذر والده عن ما قاله الصبي، لكني كنت في حالة من الخجل حاولت أن أداريه فابتسمت وغيرت الموضوع.
ما حدث أثار في حلقي غصة وجعلني أسأل نفسي: كيف وصلت مصر إلي هذا المقام؟ لا تستطيع صناعة أقلام رصاص منقوش عليها رسوم فرعونية أو صناعة تماثيل من الجبس لملوك الفراعنة؟ هل الصناعة المصرية بهذا السوء لدرجة أننا نستورد أقلامَ الرصاص من الصين. كيف وصل المشروع الصناعي المصري إلى هذا المستوى؟ ما هي عوامل الفشل؟ وما هي أسباب النجاح؟ هذه الأسئلة جعلتني أفكر في دراسة مسيرة مصر الصناعية وأسباب تعثرها وكيفية النهوض بها.
بعد هذه الحادثة بشهر وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي قام فيها مجموعة من أنصار أسامة بن لادن بتفجير برجي التجارة في نيويورك وضرب مبنى البنتاجون في واشنطن. طغت على اهتماماتنا أحداث الحرب على أفغانستان والعراق وكذلك ما يحدث للفلسطينيين. أظهرت هذه الأحداث هشاشة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والصناعي في مصر والدول العربية. لإحساسي بأهمية هذا الموضوع قررت أن أبحث موضوع الصناعة في مصر و أن أكتب عدة مقالات لعلها تفتح مجال للنقاش والتعليق والمشاركة.
عصر محمد على
عوامل النجاح
محمد علي هو مؤسس مصر الحديثة. بالنظر إلي بدائل محمد علي من الأتراك أو المماليك يدرك الإنسان أنه لولا محمد علي لتأخر تحديث مصر لعشرات السنين و لربما كان وضعنا الآن لا يختلف عن وضع أي من دول حوض النيل الأخرى مثل السودان أو إثيوبيا. إنه قدر عجيب أن يأتي بمحمد علي كفرد تابع للخلافة العثمانية من أوربا ليتخطى كل العقبات ليكون والي مصر رغم أنف الباب العالي والمماليك. إنه قدر عجيب أن يأتي بالشخص الوحيد في مصر الذي لديه القدرة على هذا العمل ويمكنه من حكم مصر. و لكنه قدر يثير الرعب أيضاً! ماذا كان سيحدث لو لم يحالف محمد علي الحظ ولو مرة واحدة. لو حدث ذلك فلربما كان كثير منا الآن يحلب" معيز" في إحدى الحقول أو يبيع "سميط وبيض وجبنة” في أحد الموالد.
لكن لماذا كان محمد علي هو الوحيد في ذلك الوقت المؤهل لتحديث مصر؟ هناك، في رأيي سببان رئيسيان: ألأول أن محمد علي أوربي المنشأ، والثاني هو الذكاء الفطري النادر لمحمد علي الذي لا يتكرر كثيراً.
أهمية نشأة محمد علي الأوربية ترجع إلى تأثره بالعقيدة العسكرية الأوربية والتي تعتبر أن السلاح هو العامل الحاسم في تحديد نتيجة المعركة. هذه العقيدة لم تكن متبناة في الشرق حيت تُعتبر الشجاعة والإقدام العوامل الحاسمة لتحديد نتيجة المعركة. هذا يفسر قيام المماليك في الحرب بالاصطفاف علي شكل هلال و الهجوم السريع للفرسان بشجاعة وإقدام بطريقة غير منظمة “loose formation” لكي يصاب العدو بالذعر ويفل هاربا. هذه التكتيك قد ينفع مع جيش من جيوش الشرق ألأوسط ولكن للأسف لم ينفع المماليك في معركة الأهرام مع الفرنسيين. لقد تمكن الفرنسيين بسلاحهم المتفوق من تدمير جيش المماليك في أقل من ساعتين وتم قتل 5000 من المماليك مقابل 300 فقط من جيش نابليون. لم تنفع المماليك الشجاعة الفائقة التي أظهروها بالرغم من أن هذه الشجاعة أذهلت نابليون لدرجة انه اتخذ أحد المماليك ليكون سكرتيره الخاص واستمر معه حتى عندما أصبح إمبراطوراً لفرنسا. نفس الشيء حدث للهنود الحمر في أمريكا اللاتينية عندما أستطاع أقل من 200 جندي أسباني من هزيمة آلاف الجنود من المقاتلين الهنود.
نشأة محمد علي الأوربية هذه تفسر مسارعة محمد علي لبناء قاعدة صناعية ضخمة للأسلحة الحربية. هذه القاعدة مكنته من بناء جيش قوي يبلغ قوامه أكثر من 200 ألف جندي قادر على خوض معارك وهزيمة جيش دول كبرى في البر والبحر. هذا الجيش تمكن في وقت قصير من بناء إمبراطورية مكونة من مصر والسودان والحجاز والشام وجزء من تركيا.
أما ذكاء محمد علي الفطري فمكنه من مراقبة الجيوش الأوربية (الفرنسية والإنجليزية) أثناء القتال واستخلاص العبر الصحيحة منها. من هذه التجربة أدرك أثر التدريب الجماعي واللياقة البدنية والانضباط علي نتيجة المعركة. نتيجة لذلك أصر محمد علي على تدريب الجيش على الطريقة الأوربية. لذلك أحضر مدربين من الخارج و أرسل البعثات للدراسة في كل أنواع الفنون لعلمه أن كل العلوم والفنون مطلوبة لبناء جيش قوي. هذا يفسر لماذا كانت المدارس المنشأة تابعةً للجيش وحتى الصحف بدأ صدورها من المؤسسات العسكرية.
هذا الذكاء جعل محمد علي يدرك أيضا أن تكوين جيش من الأتراك سيؤدي حتماً إلي مؤسسة ولاؤها للسلطان العثماني وليس له، وهذا لن يمكنه من بناء الإمبراطورية التي يحلم بها. لذلك قرر محمد علي تمصير الجيش، بالرغم من اعتراض الجنود والضباط على ذلك.
قام محمد علي أيضاً بإصلاحات في قطاع الزراعة، وذلك بتوزيع أراضي على الفلاحين و بزيادة الرقعة الزراعية بشق الترع وبناء القناطر. بذلك ضمن دخل يمكن أن ينفق منه على الجيش.
بذلك يمكن أن نقول أن أسباب نجاح محمد علي تكمن في تبني عقيدة عسكرية صحيحة، إقامة صناعات عسكرية محلية يستطيع أن يتحكم في إنتاجها، تدريب كوادر مصرية في جميع العلوم والفنون وإسناد مهمة التطوير لهم عندما أصبحوا قادرين عليها، توفير التمويل ألازم للجيش من الإصلاحات في قطاع الزراعة ولم يعتمد على التمويل الأجنبي. أي أنه تمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي المحلي في كل قطاعات الجيش وهذا مكنه من أن ينتج ما يحتاج عندما يريد. أو يمكن أن نقول أنه تمكن من تحقيق الاستقلال التام.
ذكرنا أن من أسباب نجاح محمد علي أنه كان أوربي المنشأ ويتمتع بذكاء عالي. إذاً لماذا فشلت التجربة الصناعية المصرية بعد هزيمته من الأوربيين؟ إن قيل حدث هذا لأن محمد علي توفى وخلفه حكام ليسوا على نفس القدر من الذكاء لقلنا نعم هذا صحيح أنهم ليسوا على نفس القدر من الذكاء ولكنهم هم نفس الحكام الذين ترعرعت في أيامهم، أو بالرغم عنهم، كل الفنون والثقافة والآداب وهم نفس الحكام الذي زاد في أيامهم الدخل إلى الضعف بين عامي 1823 و1860 وتضاعف 12 ضعفاً من عام 1860 إلى 1913. لماذا إذاً نهضت مصر ثقافياً ولم تنهض صناعياً؟ وحتى لو كان هؤلاء الحكام أقل ذكاءً من محمد علي، فكثير من الدول مثل إنجلترا تولى عرشها ملوك مجانين مثل جورج الثالث وشواذ مثل الملك جيمس بالرغم من ذلك تقدمت إنجلترا صناعياً في حين تخلفت مصر. نحن نقدر ذكاء الحكام ولكن ضمان آن يكون الحكام غاية في الذكاء شيء لا يمكن تحقيقه.
ربما يقول البعض إن انعدام الديمقراطية هي سبب الفشل. نقول نعم الديمقراطية لها تأثير عكسي ولكن التقدم الصناعي لم يقتصر على الدول الديمقراطية فقط، بل بعض الدكتاتوريات حققت نهضة صناعية كبيرة. يكفي دليلاً على ذلك الإتحاد السوفيتي، اكبر دكتاتورية في العالم، استطاع أن ينشأ صناعة جعلته دولة صناعية تناطح الولايات المتحدة. فإن قلت لكنها الآن تعتبر دولة من الدرجة الثانية، نقول نعم ويمكننا أن ندعي أنها أصبحت كذلك عندما بدأت تهب عليها رياح الديمقراطية بعد أن تولى جورباتشوف الرئاسة، و لاكنا لا نقول ذلك لأن الديمقراطية في النهاية تؤدي إلي قوة الدولة وازدهارها إن طبقت كما يجب. كذلك نجد أن دول دكتاتورية أخرى مثل كوريا وتايوان حققوا معجزات صناعية قبل أن يكونوا ديمقراطيات. كذلك اليابان الني بدأت نهضتها الصناعية بعد مصر بخمسين عاما أصبحت دولة عظمي في خلال 40 عاما بالرغم أنها لم تكن دولة ديمقراطية بالمعني الغربي.
إن قلت السبب هو الأمية، نقول بالطبع الأمية عامل سلبي ولكنه ليس بقاتل لأن محمد علي تمكن من إقامة صناعات عسكرية متطورة بنسبة أمية عالية (93 %). أضف إلى ذلك أن الأمية في باقي الدول التي تقدمت كانت عالية أيضا و لم تكن صفراً في ألمائه.
فإن قلت السبب هو تآمر الدول الغربية على مصر لقلنا وهكذا كل دولة تتآمر عليها الدول الأخرى. إنجلترا كانت تتآمر على فرنسا وكذلك فعلت فرنسا مع وألمانيا وأسبانيا وجميع الدول الصناعية. لم تسلم دولة من التآمر. بالرغم من ذلك أصبحت كل هذه الدول دول صناعية متقدمة بدخول متقاربة للفرد في كل منها.
فإن قلت ليس التآمر فقط ولكن الدخول في حرب وهزيمة مصر في هذه الحرب، لقلنا كذلك هُزِمت فرنسا من إنجلترا وهزمت جميع دول أوربا من نابليون فرنسا، ثم هزمت فرنسا من بسمارك ألمانيا في عام 1871 وتم أسر الإمبراطور الفرنسي. بالرغم من كل هذه الهزائم تمكنت الدول الأوربية من تحقيق نهضة صناعية متقدمة.
فإن قلت ربما تضافر كل هذه الأمور هو السبب، لقلنا وهذا بالنسبة للدول الصناعية الأخرى تضافرت هذه الأمور وكان لها تأثير سيء لكنها لم تقتل الصناعة وتمكنت هذه الدول من تقليل أو رفع تأثير هذه العوامل.
السؤال إن لم تكن العوامل السابقة هي السبب فما هو السبب إذاً؟
العامل الأول هو أن محمد علي أنشأ صناعة عسكرية وكانت الصناعات المدنية موجودة لكي تغذي الصناعات العسكرية. لقد جعل محمد علي الاقتصاد المصري، الزراعي والتجاري والصناعي رهينة للقطاع العسكري. ألصناعة العسكرية بالطبيعة صناعة غير منتجة بل هي صناعة هالكة: إما بالتدمير أثناء المعارك وإما بالتكهين (تصبح كُهنة أو خًردة) عندما تستنفذ مدة صلاحيتها. الصناعة العسكرية تعتبر صناعة شبه منتجة في حالتين: أولها أن تستخدم لضمان استقرار البلد والثانية أن تستخدم لتطوير تكنولوجيا ذات استعمال مدني. أما أن تكون صناعة عسكرية بحتة فإن دورتها في الاقتصاد تكون ضعيفة.
لا يمكن لدولة تعتمد كلياً علي الصناعات العسكرية أن تستمر. الدليل على ذلك هو الإتحاد السوفيتي الذي سخر جزء كبير من الاقتصاد لدعم المؤسسة العسكرية. هذا أدي في النهاية إلي انهيار الإتحاد السوفيتي ولولا أن كان هناك صناعات مدنية روسية لكان انهيار روسيا الاتحادية انهياراً كاملاً. المثال الثاني هو فرنسا نابليون. تمكن نابليون من هزيمة جميع دول أوربا بصناعاته العسكرية وخاصة المدفعية التي كانت الأفضل في العالم، لكنه انهار في النهاية ولم تلحق فرنسا بالثورة الصناعية إلا بعد أربعين عاماً أيام نابليون الثالث.
في حالة مصر، وضعت شروط علي عدد وعدة الجيش فوجدت مصر نفسها في وضع منهار لأن كل الاستثمار في الصناعات الحربية قد ضاع ولا توجد صناعات مدنية قادرة على استكمال المسيرة. في حين استمر التطور الثقافي والاجتماعي والأدبي والفني لأن هذه الأعمال وجدت منفذ في الحياة المدنية لكي تتطور بالرغم أن سبب وجودها كان لحاجة الجيش لها.
العامل الثاني الذي دمر الصناعة المدنية هو رخص الأيدي العاملة في مصر. ربما يختلف معي البعض في هذا الرأي لأنهم يرون أن رخص الأيدي العاملة يقلل من التكلفة ويساعد على الرواج. المغالطة من وجهة نظري في هذه المقولة هي أن الذي يساعد على الرواج هو انخفاض تكلفة الإنتاج وليس رخص الأيدي العاملة. الفرق بين الاثنين هو أن رخص تكلفة الإنتاج تؤدي إلي زيادة القدرة التنافسية ويؤدي إلى الرواج أما رخص الأيدي العاملة يقلل القوة الشرائية للمجتمع وهذا يؤدي إلي التدهور الاقتصادي. الدليل على ذلك هو أنه في الدول المتقدمة تجد الأجور مرتفعة والقدرة التنافسية للبلد عالية أما الدول الفقيرة فالأجور فيها منخفضة جدا والقدرة التنافسية منخفضة. فلو كانت العلاقة بين التقدم الصناعي للدول و الأجور طرديه لكانت زيمبابوي في أعلى قائمة الدول الصناعية و أمريكا في أسفل القائمة. لكن وجدنا أن العلاقة عكسية وهذا يجعل من المنطقي الاعتقاد بأن رخص الأيدي العاملة هو دليل علي التخلف الصناعي و أن دفع الأجور علي للانخفاض يسبب الانهيار الصناعي. هذا يفسر ما قاله الصناعي ألأمريكي هنري فورد عندما رفع أجر العمل من دولار إلي خمسة دولارات. وقال فورد قولته الشهيرة والتي معناها كيف أتوقع أن أبيع السيارات التي ينتجها مصنعي إن لم أعطي العمال الأجر الذي يتمكنوا به من شرائها.
ربما يقول قائل أن هذا الطرح غير منطقي لأن رخص العمالة يزيد القدرة على المنافسة. نقول الذي يزيد القدرة على المنافسة هو رخص تكلفة الإنتاج للفرد أو ما يسمي (High Human Capital) أو (High Productivity). نعم العمالة الرخيصة تخفض التكلفة قليلاً لكنها تضعف السوق المحلي وتثبط الهمم لاختراع تقنيات جديدة. بدون هذه التقنيات تقل القدرة التنافسية للدولة حتى وإن كانت تكلفة العمالة تصل إلي العدم.
لكي نثبت هذه النظرية سنأخذ بلدين تتماثل جميع العوامل فيما عدا سعر العمالة ونبحث عن مستوي التقدم الصناعي في كلا البلدين ونرى من منهم كان متقدما على الآخر. المثال هو أمريكا الفدرالية المتمثلة في ولايات الشمال وأمريكا الكنفدرالية المتمثلة في الولايات الجنوبية وذلك في عام 1860 عند بداية الحرب الأمريكية الأهلية. جميع الولايات، جنوبية أو شمالية، كان فيها نفس النظام السياسي والاقتصادي ونفس القوانين والحريات. أي أنهم كانوا متماثلين في كل شيء. الاختلاف الوحيد هو أن الجنوب كانت الأجور فيه رخيصة جداً يسبب وجود عدة ملايين من العبيد يعملون لأسيادهم بدون أجر، أما الشمال فكان يعتمد غلي الأحرار من العمال ذو الأجور العالية نسبياً. بالرغم من رخص العمالة في الجنوب وجدنا أن الجنوب كان متخلف صناعياً عن الشمال، وكان هذا التخلف من أسباب هزيمته في الحرب الأهلية، بالرغم من شجاعة الجنوبيين الأسطورية في مواجهة الشمال. لو كان رخص العمالة يؤدي إلي النهضة الصناعية لكان الجنوب أكثر تقدما وانتصر في الحرب الأهلية و لكان لدينا دولتان أمريكيتان بدلا من واحدة.
الحقيقة أن رخص العمالة كان السبب في تأخر الثورة الصناعية لأكثر من 2000 عام. فالمحرك البخاري (Steam Engine) لم يخترع في القرن الثامن عشر، إنما الحقيقة التي لا يعلمها كثير من الناس أن المحرك البخاري أخترع أيام الإغريق كما ذكر الكاتب الإغريقي "هيرو" في المخطوطة التي اكتشفت في الإسكندرية. و كان هذا المحرك يستخدم في فتح أبواب المعابد،
صعوبة الآلة البخارية تنبع من الحاجة إلى نظام ميكانيكي معقد يمكن به تسخير واستعمال هذه الطاقة. فهل يا ترى كان هذا هو سبب عدم تطوير الآلة البخارية أيام الإغريق؟ الجواب على غير المتوقع هو لأن الإغريق كانت لديهم القدرة على صنع هذه النظم فلقد قاموا بصنع نظم ميكانيكية أصعب و أعقد من التي يتطلبها المحرك البخاري. لقد قاموا بصناعة أوناش قادرة على القبض علي سفينة من سفن الرومان العملاقة ورفها عشرات الأمتار و إلقائها في البحر. من يستطيع أن يصنع آلة بهذه الضخامة هل يعجز عن تصنيع نظام ميكانيكي صغير لآلة البخار؟ الجواب لابد أن يكون لا.
إذا لماذا لم يطور الإغريق هذه الآلة لكي تستعمل في الأغراض الصناعية والنقل؟ الجواب هو وجود العبيد. لقد كانت تكلفة العبيد رخيصة لدرجة أنه لم يكن مفيد اقتصادياً أن تستعمل الميكنة. مثلاً استخدام العبيد لتشوين القمع في الصوامع كان أرخص من استعمال روافع مثل التي استخدمت لتدمير السفن الرومانية. هذا يثبت أن رخص الأيدي العاملة كان سبباً رئيسيا للتخلف الصناعي.
حدث نفس الشيء أيام محمد علي عندما عرض عليه استعمال آلة حلج القطن فرفضها قائلاً انه أرخص له أن يستعمل فلاحين للحلج بدلا من استعمال هذه الآلة. معنى ذلك أن محمد علي آثر تخفيض التكلفة باستعمال أيدي عاملة رخيصة بدلاً من زيادة ألإنتاجية باستخدام التكنولوجيا الحديثة. لو عرفت أن صناعة المنسوجات كانت المكون الأكبر للتبادل التجاري الدولي لأدركت الخسارة القاتلة للصناعة المصرية بسبب هذا القرار من محمد علي والتي لم تتعافي من آثاره الصناعة المصرية حتى يومنا هذا. لم تستطع الصناعة المصرية المنافسة أمام الأجنبية وفي النهاية اضمحلت وتأخرت.
ربما يقول قائل: إذا كان التقدم الصناعي مرتبط بزيادة سعر العمالة، فلنرفع سعر العامل إلى مليون جنيه في الشهر ونحقق نهضة صناعية أكبر من أمريكا. الأمور ليست كما يتخيل البعض. حينما نقول أن اليد العاملة رخيصة نقصد أنها تفرض عليها الرخص بقوي خارجية لا علاقة لها بقوانين وقوي السوق. هذا يحدث في حالة العبودية أو الإقطاع (serfing) أو سيطرت الدولة علي الاقتصاد في النظم الشمولية. للأسف في الوقت الذي كان فيه الغرب يتخلص من النظام الإقطاعي (serfing) كان محمد علي ينشأ هذا النظام في مصر. ولقد استمر إذلال الفلاح المصري منذ عصر محمد علي وحتى قيام الثورة.
العامل الثالث هو أنه بالرغم من ذكاء محمد علي الشديد إلا أنه لم بكن مثقف ذو خيال. كان محكوم بتجربته الشخصية. وحيث أن التجارب الشخصية لأي فرد محدودة كان خيال محمد علي وإدراكه بطبيعة الأمور وتأثيرها محدود. مثلاً لم يكن يدرك أهمية الحرية للنهوض بالمجتمع مثل ما أدركها جفرسون وفرانكلين عند قيام الثورة الأمريكية. لم يكن يدرك أهمية المساواة بين أفراد الشعب كما أدركها الفرنسيين. لم يكن محمد علي إلا حاكم تركي متنور يحاول أن يقلد الدول الأوربية ولقد نجحت تجربته بسبب عزيمته ولكن تجربنه الصناعية لم تكن لديها العمق السياسي أو الاجتماعي لكن تنهض بأمة. لم يحيط محمد علي نفسه بمثقفين مبدعين كما حدث مع جورج واشنطون عندما كان يحيط به عباقرة من أمثال هاملتون وماديسون وجاكسون والذين صاغوا دستوراً قاد دولة زراعية تعداد سكانها 3 ملايين نسمة لكي تصبح أقوى وأغني دولة في التاريخ. لأن محمد علي كان دكتاتوراً يتخذ القرار وحدة فإن ثقافته المحدودة بتجربته أثرت سلبياً علي قراراته. لو كان ديمقراطياً لأمكن تلافي هذا النقص. لو كان هناك مؤسسات مدنية مثل الجمعيات العلمية أو الصناعية لأمكن سد الثغرات في قرارات الحكومة. لكن هذا لم يوجد فكان التقدم مرتبط بما يقتنع به محمد علي نفسه بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى.
العامل الرابع هو اعتماد مصر علي الخبرات الفرنسية في التحديث وليس الخبرات الإنجليزية. عندما أراد محمد علي تحديث الجيش كان لابد أن يستعين بخبراء أجانب. كان غالبية الخبراء في البداية من الإيطاليين، لكن بعد زيارة البعثة الفرنسية لمصر في عام 1824 أصبح معظم الخبراء الأجانب من فرنسا. المشكلة مع فرنسا أنها كانت دولة متخلفة صناعياً في هذا الوقت. ففرنسا لم تدخلها الثورة الصناعية إلا بعد عام 1852 عندما تولي الحكم نابليون الثالث. أما قبل ذلك فكانت لا تختلف كثيراً عن الدول المتخلفة الأخرى. من هنا لم تأخذ الصناعة الاهتمام الكافي وإن كانت الفنون والآداب قد تطورت نتيجة لهذه العلاقة.
من هذه المقالة يبدوا أن تدهور الصناعة المصرية في نهاية عهد محمد علي كانت قدراً لا فكاك منه لأن مقومات إنشاء مجتمع صناعي متطور له قدرة ذاتية علي الاستمرار لم تكن موجودة. إن لم تكن هذه المقومات موجودة فهل وجدت بعد ذلك؟
بعد مرض محمد علي حكم أبنه إبراهيم لعدة أشهر، بعدها تولى الحكم الخديوي عباس حلمي الأول الذي أعقبه الخديوي سعيد ثم إسماعيل ثم توفيق ثم عباس حلمي الثاني. الفترة بين عباس حلمي الأول و عباس حلمي الثاني هي حوالي 75 عاماً. بعد تولي عباس حلمي الأول السلطة قام بهدم كل ما قام به جده محمد علي من تطور: فقام بإغلاق المدارس والمصانع والمرافق الصحية. بذلك تدهورت حالة مصر الصناعية وضاعت إنجازات محمد علي.
يمكن أن نحصل علي صورة حقيقية للحالة الصناعية في مصر بعد محمد علي، وذلك بأن نفحص ونقيم المعروضات التي شاركت بها مصر في معرض الصناعات الدولي المقام في لندن في عام 1851. قامت الجمعية الملكية للفنون بإنجلترا بتنظيم معارض للصناعات لإحساسهم بتندي مستوي التصميم للصناعات البريطانية. هذه الجمعة هي جمعة خاصة كانت تقيم هذه المعارض لتشجيع الصناعات الإنجليزية وزيادة قدرتها التنافسية وتنميتها بالإضافة إلي تبادل الأفكار والخبرات بين الشركات والهيئات المشاركة في المعرض. في هذه المرة دُعِيَ لهذا المعرض بعض الدول الأجنبية ومنها مصر. أشتمل المعرض على 30 جناح كلها تقع تحت واحد من الأقسام الستة التالية: (1) المواد الخام، (2) الآلات، (3) المنسوجات، (4) المنتجات المعدنية والسيراميك، (5) الفنون الجميلة، (6) صناعات متنوعة. اشتركت مصر في هذا المعرض بعدد كبير من المعروضات. وكما هو متوقع غالبية هذه المعروضات كانت تقع تحت قسم المواد الخام مثل المعادن والمواد الزراعية كالقطن. أما المواد المصنعة فكانت من نوعية القماش، ملابس الجنود، أشرعة المراكب، سروج الخيل المطعمة بالذهب، هذا بالإضافة إلى 165 كتاب بالعربية والتركية والفرنسية صادرة من مطبعة بولاق.
حصلت مصر علي ميداليات وشهادات تقدير لمنتجات تقع تحت التصنيفات التالية: التصنيف الثالث: مواد تستخدم في الطعام؛ التصنيف الرابع: خضروات ومنتجات حيوانية؛ التصنيف السابع عشر: ورق ومطبوعات وتجليد كتب. هذه الكتب كانت من المطبوعات التي طبعت في مطبعة بولاق حتى عام 1843. كان عدد العناوين المعروضة في المعرض (165) هو حوالي ثلثي المطبوعات البولاقية التي طبعت في المطبعة حتى عام 1843 وهي 248 عنوان. سبب اهتمام الإنجليز بالمعروضات المصرية هو اهتمام الإمبراطورية البريطانية بالدراسات الشرقية وإنشاء أقسام لها في المؤسسات التعليمية مثل كلية الملك (King’s College) وكلية الجامعة (University College). كانت هذه الكتب بمثابة كنز لمكتبات هذه الكليات. مصر في ذلك الوقت لم تكن مستعمرة بريطانية بل دولة شبه مستقلة تابعة للدولة العثمانية.
الملاحظ أن مصر لم تعرض أي شيء خاص بالصناعة أو الماكينات. كل ما عرض هو من عينة المواد الخام ومنتجات استهلاكية مثل الأقمشة. هذا يوضح أن مصر لم تكن دولة صناعية، بل دولة زراعية في طريقها إلي الانحدار.
بعد وفاة عباس حلمي الأول تولى الحكم الخديوي سعيد والذي لم يفعل شيء لمصر غير توقيع عقد حفر قناة السويس والسماح بالسخرة للفلاحين في حفرها. من الناحية الصناعية لم يكن هناك تقدم يذكر.
خلف الخديوي سعيد الخديوي إسماعيل. أراد إسماعيل أن يجعل مصر قطعة من أوربا فبدأ ينفق ببذخ على القصور والاحتفالات. بدأ خطته بتحديث أحياء القاهرة وميادينها وإنشاء أحياء جديدة مثل الزمالك و ميدان الإسماعيلية وغيرها. تصور إسماعيل أنه يمكن أن يجعل مصر دولة متقدمة بإنشاء بعض المباني الحديثة والشوارع الواسعة، و يبدوا أنه لم يكن يدري أن ذلك لن يؤدي إلي نتيجة.
بما أن المباني والميادين ليست مشروعات إنتاجية كان لابد أن يمولها من مصدر آخر. في البداية كان القطن الذي ارتفع سعره نتيجة الحرب الأهلية الأمريكية. وعندما نضب هذا المنبع استدان من أوربا. وعندما عجز عن السداد باع حصة مصر في قناة السويس التي حفرتها مصر بدماء وعرق آلاف المصريين. وأدى ذلك في النهاية إلي وضع مصر تحت الوصاية ثم في النهاية احتلال الإنجليز لمصر بحجة حماية مصالحهم. لقد باع الخديوي إسماعيل مصر بدراهم معدودات وكان يعتقد أنه عبقري نقل مصر من أفريقيا ووضعها في قلب أوربا.
ما أشبه اليوم بالبارحة، الآن ما تعدده الحكومة المصرية من إنجازات لا يتجاوز المدن الجديدة وعدة ملايين من خطوط التليفونات وبعض الكباري والأنفاق ثم يقال لنا أننا أصبحنا دولة متقدمة لدرجة انه في مؤتمر اقتصادي عقد في القاهرة في عام 2000 أطلقنا على أنفسنا اسم "نمور النيل." المراقب يلاحظ أن مصر أصبحت على حافة كارثة التدخل الأجنبي وفرض الوصاية على مصر من الولايات المتحدة وأوروبا. الغريب أن البعض مازال يعتبر الخديوي إسماعيل حاكم ناجح لأنه بنى دار الأوبرا ولا يذكروا أنه كان السبب في احتلال مصر. وهم نفس المجموعة التي تعتبر مصر الآن في أزهى عصورها لأنها بنت مترو الأنفاق.
بعد تنحية إسماعيل لسوء أحوال البلاد والعباد تولي توفيق السلطة وقامت الثورة العرابية فاستعان توفيق بالإنجليز الذين احتلوا مصر لمدة 70 عاماً حتى خرجوا منها في عام 1956. لم تتقدم مصر في عهد توفيق أو عباس الثاني الذي خلفه وإن كانت الخدمات تحسنت لأن الإنجليز أرادوا أن يكون لديهم وسائل اتصال يمكنهم بها أن يسيطروا على مصر فقاموا بشق الطرق وإنشاء خطوط سكك حديدية لربط المن الرئيسية ومدوا خطوط التلغراف والتليفون وغيرها من الخدمات. لكن كانت الآلات والمنتجات اللازمة لتوفير هذه الخدمات تصنع في أوربا وكانت مصر دولة مستهلكة فقط.
استمر الحال في أيام عباس حلمي الثاني. بالرغم انه كان أكثر وطنية من توفيق إلا أنه لم يكن لدية التصور الذي يمكن به تحديث مصر صناعياً. كانت هذه المسألة لا تقلق أحد. كان الاهتمام الأكبر بالاستقلال و بالتغيير الاجتماعي و الثقافي، أما التطور ألصانعي فكان كأنه لا يعني أحد.
يمكن أن يفهم عدم الاهتمام بالصناعة بفحص تركيبة المجتمع المصري في هذا الوقت. كان الأغنياء من الإقطاعيين لديهم المال الذي يمكنهم من شراء ما يحتاجون أو يريدون من أوربا. أما الفقراء فكان كل همهم هو توفير لقمة العيش ولا يطمحوا في أكثر من ذلك. أما الخديوي فمشغول بدسائس ومؤامرات القصر والوزراء والإنجليز. لذلك لم يكن لدى أحد الوقت ليفكر في هذا الموضوع، ولما كان لا توجد في مصر منظمات مدنية قوية مهتمة بدفع مشاريع التصنيع، كما كان ولا زال يحدث في دول أوربا، فكانت مسألة التصنيع غير واردة في حسابات الطبقة الحاكمة.
هناك ملاحظة أخيرة يجب ذكرها وهي أن الدخل القومي المصري تضاعف 12 مرة خلال هذه الفترة. يرجع هذا الي تحسين أحوال المواصلات والري والخدمات. كان الإنجليز وراء هذا التحسن حتى يستطيعوا السيطرة على البلاد. لكن التقدم الصناعي كان محدود، لذلك استمرت مصر دولة متخلفة بالرغم من زيادة الدخل القومي. هذا يوضح أن الاقتصاد الخدمي لا يطور أي دولة ولكنه التطور الصناعي الحقيقي هو الذي يؤدي إلى ذلك.
استقبلت مصر الحرب العالمية الأولي وهي في حالة تخلف صناعي وكأنها تراجعت عشرات السنين عن أيام محمد علي، فما ذا حدث بعد الحرب؟.
البرنامج الصناعى المصرى فى عصر جمال عبد الناصر:
يعتبر الرئيس جمال عبد الناصر أعظم رئيس حكم مصر في تاريخها الحديث. ربما يختلف البعض معه، لكن حجم تأثيره على النظام السياسي والاجتماعي في مصر والعالم لا يقل عن تأثير محمد علي على مصر ومنطقة الشرق الأوسط أو تأثير نابليون على مصر وأوربا في بداية القرن التاسع عشر. أوجه الشبه بين هؤلاء الرجال كبيرة لدرجة أنك لو أبدلت أحدهم مكان الآخر لما اختلفت النتيجة.
أول أوجه الشبه بين هؤلاء هو أنهم عسكريون محبوبون من عامة الشعب، قاد كل منهم بلده نحو تغيير جزري غير مجري الحياة فيها. لذلك يعتبر كل واحد منهم أنه قد دشن بداية عصر جديد غير موازين القوى في منطقته. هذا التشابه بينهم لا يمنع وجود خصوصية لكل منهم ساعدته على بلوغ ما بلغ. فمحمد علي مثلاً كان داهية استطاع استمالة قلوب أعيان مصر لكي يفرضوه والي على مصر. بعد ذلك استطاع أن ينال شبه استقلال عن تركيا. أما نابليون فكان عبقرية عسكرية لا يجود التاريخ بمثلها إلا كل ألف عام، فهو ثالث عبقرية عسكرية في تاريخ البشر بعد الإسكندر الأكبر المقدوني وهانيبال القرطاجي. أما عبد الناصر فهو ثوري من الدرجة الأولى، خطط ونفذ لثورة غيرت وجه العالم الثالث. عبد الناصر لم يتربع على السلطة بتعين من سلطان، مثل محمد علي، ولم يركب موجة ثورة كانت قد قامت ونجحت مثل نابليون، بل كان هو المخطط والمنفذ للثورة. هذا بالإضافة إلى أن جمال عبد الناصر كان طاهر اليد غير قابل للإفساد (incorruptible)، كما ذكرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
كل منهم غير بطريقته الخاصة السُلم الاجتماعي في بلده. محمد علي فتح الباب أمام المصريين لتولي مناصب ومهام مهمة أدت في النهاية إلي تمصير الحياة السياسية والاجتماعية في مصر بعد أن كانت الطبقة السياسية والاجتماعية المسيطرة من قبل مقصورة على العثمانيين و المماليك. لولا محمد لما انتهي عصر المماليك إلي غير رجعة. أما نابليون فأنهي إلى الأبد سيطرة طبقة النبلاء في أوربا. لقد فتح الباب أمام كثير من عامة الشعب في مناصب عليا في الجيش والإدارة. فتح الباب أمام المواهب من غير طبقة النبلاء وساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات فأعاد البنية الاجتماعية لفرنسا. تجد مثلاً أنه قام بترقية بعض الجنود برتبة رقيب إلى رتبة جنرال بسبب كفاءتهم، بالرغم أنهم كانوا من عامة الناس. ما كان بإمكان هؤلاء الجنود الوصول إلى هذه المراتب في المناصب لولا نابليون. حول نابليون عامة الشعب من رعايا (subjects) إلى مواطنين ذو سيادة (sovereigns). أما عبد الناصر فحرر البلد من الاستعمار وقضى على الإقطاع وحول كذلك الشعب من رعايا عبيد إحسانات العائلة المالكة والإقطاعيين إلى شعب ذو سيادة. ولكي يكرس هذه السيادة فتح التعليم لكل فئات الشعب وخلق جيل من المتعلمين لقيادة النهضة في مصر. الطبقة الحاكمة الآن هي من الجيل الذي فتح له عبد الناصر التعليم في كل مراحله بعد أن كانت في معظمها من طبقة الملاك. بالرغم من فساد الطبقة الحاكمة الآن في مصر، فهذا فساد فردي وموجود في كل الطبقات كما هو الحال في الدول الغربية. أي أنه ليس فساد طبقي مثل فساد طبقة النبلاء مثلاً. الفساد الطبقي يتحول إلي حق لهذه الطبقة تدافع عنه ولا تتخلى عنه طواعية. الفساد الطبقي يخلق له شرعية مثل حقوق طبقة النبلاء أو المماليك أو العائلة المالكة أو الكهنة ورجال الدين.
كان الثلاثة إصلاحيين ذوي رؤى إصلاحية محددة ومدروسة. محمد علي نظم الجيش والدولة بطريقة عصرية نقلت مصر إلى نهضة حضارية لم يصل إليها كثير من شعوب العالم إلا بعد قرن ونصف من الزمان. بل يمكن القول أن هذه النهضة كانت الأساس الذي بنى عليه العرب وكثير من المسلمين صحوتهم فيما بعد.
أما نابليون فقد بني الدولة الفرنسية الحديثة ووضع لها دستور مدني حديث (Code Napoléon) هذا الدستور تبنته كثير من الدول مثل إيطاليا وأسبانيا ومصر وبعض دول أمريكا اللاتينية وولاية لويزيانا الأمريكية وولاية كيبك الكندية. نابليون لم يساهم فقط في نهضة فرنسا الحضارية بل ساهم في نشر مبدأ الحرية والعدالة في كثير من دول العالم. الجدير بالذكر هنا أن نوضح أن مبادئ الحرية والمساومات كانت مدونة في الدستور الأمريكي قبل بزوغ نجم نابليون، ولكن أمريكا كانت بعيدة ومنعزلة عن العالم القديم. لذلك تأثير أمريكا لم يشعر به العالم القديم إلا في بداية القرن العشرين ثم أصبح بعد ذلك هو المهيمن بعد الحرب العالمية الثانية.
أما عبد الناصر فقضى على تحالف ثلاثي تشابكت مصالح أعضائه مع بعضها، ولم تكن مصلحة الشعب حاضرة إلا بالقدر الذي يخدم مصالح هذا التحالف. هؤلاء الثلاثة هم الإنجليز والقصر والأحزاب التي تمثل الإقطاعيين. كلنا يعلم كيف كان الملك والإنجليز يحاربون طلعت حرب. كلنا يعلم كيف فرض الإنجليز النحاس باشا كرئيس للوزراء بعد أن كان عدوهم. كلنا يعلم كيف كان الإنجليز يتآمرون مع الملك ضد الوفد ثم كيف تآمروا مع الوفد ضد الملك وكل هذا على حساب الشعب. التحالف بين الثلاث مثل التحالف بين المماليك والعثمانيين. فكما كان حلف المماليك والعثمانيين لا يستطيع كسره إلا شخص في ذكاء محمد علي، كذلك كانت التحالفات بين الملك والإنجليز أو الإنجليز والأحزاب السياسية يصعب كسرها إلا من شخص في ذكاء عبد الناصر. أذاب عبد الناصر الفوارق بين الناس، ليس فقط بمرسوم منع الألقاب المدنية ولكن بتثبيت ذلك على أرض الواقع بإتاحة التعليم للجميع و فتح فرص متكافئة أمام جميع أفراد الشعب. ما فعله عبد الناصر ما كان ليحدث من تلقاء نفسه نتيجة التطور الاجتماعي الطبيعي مهما ادعي أعداء عبد الناصر وذلك نتيجة للتحالفات التي كانت قائمة والتي خلقت لنفسها شرعية تمكنت بها أن تزيح أعدائها أو أن تجذبهم لها. الوفد كان حزب الشعب وضد الإنجليز لكننا وجدناه يتحالف مع كبار الملاك والإنجليز. أصبح الوفد في الأربعينيات من القرن الماضي يستمد شرعيته من كبار الملاك وليس من عامة الشعب وهذا ما جعل الشعب يلتف حول الثورة عند قيامها ويترك الوفد.
وجه الشبه بين العمالقة الثلاثة لم يقتصر فقط على إنجازاتهم بل وصل إلي تشابه قدراتهم العقلية والنفسية. الثلاثة كان لديهم قدرة فائقة علي قراءة الماضي واستيعابه لتغير الحاضر. ألثلاثة أيضاً فشلوا في استشراف المستقبل. لذلك تجد أن مسيرتهم متطابقة. الثلاثة خططوا ونجحوا في البداية نجاح فاق التصور وأذهل الجميع. هذا النجاح شجع ثلاثتهم على انتهاج الحكم الفردي، ولما لا، أليست لديهم قدرات تفوق قدرات الآخرين؟ أليس من الطبيعي أن يُترك للناجح أن يقود الآخرين؟ الثلاثة أيضاً أصابتهم الهزائم وماتوا وهم في قاع الهزيمة.
لو نظرنا لوجدنا أن أسباب الهزيمة واحدة وبنفس الطريقة. السبب في النهاية يمكن أن نعزوه إلى عدم قدرتهم على استشراف واستشفاف المستقبل. أما الهزيمة فكانت متماثلة، لم تكن من الداخل بلا كانت بقوى من الخارج. الهزيمة من الداخل تكون بسبب ضعف الحاكم ووجود فراغ في السلطة، أما الهزيمة من الخارج فتكون بسبب الفشل في استشراف المستقبل ومتغيراته والاستعداد له. هذه النقطة سنوضحها أكثر عند حديثنا عن الجانب الصناعي في القضية. في النهاية القدرات الصناعية لأي بلد هي التي تخلق القدرات العسكرية التي بها يتحقق النصر.
قدرة عبد الناصر على استيعاب الماضي مكنته من معرفة أسباب فشل ونجاح التجربتين الصناعيتين السابقتين: تجربة محمد علي وتجربة طلعت حرب. أدرك عبد الناصر أن نجاح الجيش المصري أيام محمد علي يرجع إلي تبني الدولة إنشاء مصانع حربية متطورة واستجلاب الخبرة الأجنبية لإدارة هذه الصناعات، في نفس الوقت الذي أرسلت فيه بعثات للطلبة المصريين لاكتساب العلم والخبرة في الخارج لإحلالهم محل الأجانب مستقبلاً. لكنه أدرك أيضاً أن إهمال الصناعات المدنية كان أكبر أخطاء محمد علي. أدرك عبد الناصر من تجربة طلعت حرب أن بناء مصانع لتصنيع مستلزمات البلد بدلاً من الاعتماد على الخارج هو شيء أساسي لضمان استقلال البلد. لكنه أدرك أن ترك عملية التصنيع للقطاع الخاص لن تؤدي إلي تصنيع البلد بالصورة التي يحقق بها الاكتفاء الذاتي. لذلك قام عبد الناصر بدمج التجربتين: أنشأ المصانع الحربية واستقدم بعض العلماء والمهندسين الألمان، الذين لا يجدون عمل بسبب ارتباطهم بألمانيا النازية، للعمل في المصانع الحربية لتطوير صناعة مصرية حربية. ثم أنشأ القطاع العام لتولي الصناعات المدنية الثقيلة مثل صناعة السيارات والحديد والصلب والصناعات الكيماوية وغيرها والتي ربما لن يقدم على إنشائها القطاع الخاص.
هذه الطريقة التي بدأها عبد الناصر نجحت في البداية لدرجة أنها أخافت إسرائيل. بدأت المنتجات المصرية تنزل السوق ويشتريها المصريين بدلاً من المنتجات الأجنبية. قامت مصر بتصدير فوائضها الصناعية للخارج. صدرت الأقمشة والسيارات والحديد والأسمنت. بدت التجربة المصرية وكأنها التجربة الرائدة في العالم الثالث والتي فكرت كثير من الدول في اقتنائها. وفعلاً قامت كثير من الدول بالسير على نفس التجربة في العالم العربي والعالم الثالث. أستمر النجاح لفترة ثم لوحظ انخفاض الجودة ثم ترديها ثم تخلفها عن مثيلاتها من الدول الأخرى. لقد بات واضحاً بعد ذلك فشل التجربة المصرية الصناعية.
هناك تفسيرات عدة لسبب فشل التجربة، منها الحكم الفردي ومنها الفساد ومنها طبيعة القطاع العام. لكن يجب أن نعرف مثلاً أن كوريا وتايوان نهضوا صناعيا في ظل الحكم الفردي. أما الفساد فموجود بدرجات متفاوتة في كثير من الدول الصناعية التي لم تفشل تجربتها. أما تفسير الفشل بأنه نتيجة حتمية لطبيعة القطاع العام فيكفي أن نعلم أن كثير من الصناعات المتطورة في فرنسا وألمانيا وإنجلترا قطاع عام ولم تفشل التجربة الصناعية عندهم. مما لاشك فيه أن الفساد والحكم الفردي يؤثران سلبا على التنمية الصناعية لكن التجربة الصناعية كان يمكن أن تنجح كما نجحت تجارب أخرى تعاني من نفس المشاكل.
الواقع أن سبب فشل تجربة عبد الناصر الصناعية هو عدم تمكنه من استشراف تأثير حدث وقع في أمريكا في عام 1948 على الصناعة في المستقيل. لو أدرك عبد الناصر أهمية هذا الحدث لكانت مصر الآن في وضع أفضل من وضع كوريا الجنوبية. في عام 1948 أعلن العلماء براتن وباردين و شوكلي (Walter Houser Brattain, John Bardeen, and William Bradford Shockley) اختراع الترانزستور. في عام 1952 أصبح واضحاً أن هذه الصناعة سوف تغير وجه العالم. لم يدرك عبد الناصر أهمية هذه الصناعة وتعامل القائمين على الصناعة كقطعة غيار في ماكينة. لذلك كان التعامل مع هذه الصناعة هو استيراد هذه القطع من الخارج وتجميعها لتصنيع أجهزه إلكترونية. تم إنشاء شركات تجميع إلكترونية مثل شركة بنها للإلكترونيات أو شركة النصر واقتصر عملهم علي تجميع أجهزة مثل التليفزيون أو التليفون.
الفشل في إدراك أثر الصناعة الإلكترونية في مستقبل المشروع الصناعي المصري أصاب الصناعة المصرية بطعنتين قاتلتين. ألأولى هو عدم القدرة على تصميم وتصنيع منتجات حديثة متطورة ذات قدرة تنافسية (competitive innovative products). الثاني هو عدم القدرة على تصنيع خطوط إنتاج بالقدرات المحلية والتي كانت لازمة للقيام بعملية الإحلال والتجديد للمصانع بتكلفة تنافسية وبالسرعة المطلوبة لزيادة رقعة السوق.
حينما طبق طلعت حرب خطة استيراد المصانع من الخارج للتصنيع المحلي كان العمر الافتراضي لهذه المصانع يصل إلى خمسين عاماً، خلال هذه الفترة كل ما يحتاج المصنع إليه هو الصيانة العادية. لذلك لم يدرك طلعت حرب الأهمية الحيوية لإنشاء صناعات أساسية مثل المحركات وخطوط الإنتاج والتصميم. كذلك عبد الناصر لم يستطيع قراءة المستقبل ليدرك أن العمر الافتراضي للمصانع سيقل عاماً بعد عام نتيجة تزايد وتيرة التحديث للمصانع بسبب الثورة الإلكترونية. عدم وجود صناعة إلكترونية حقيقية في مصر أجبرها على استيراد هذه المصانع من الخارج ثم إحلالها بعد فترة قصيرة قبل أن تغطي تكلفتها. عندما قلت العملة الصعبة و عجزت الدولة عن تجديد المصانع بدأت الجودة تقل والمصانع تخسر والبطالة المقنعة تزيد والبلد تتأخر.
كلنا يعلم أن معظم الربح أو الثروة العائدة إلى البلد تأتي من القيمة المضافة للسلعة. لكن معظم المصريين، بما فيهم صناع القرار، لا يدركون أن عجز البلد عن إضافة هذه القيمة سببه عدم وجود صناعات إلكترونية حقيقية لكي نتمكن من تصميم أنواع جديدة من المنتجات أو تصميم وإنتاج خطوط إنتاج ذات كفاءة إنتاجية عالية يمكن بها أن ننافس الخارج. هذا يوضح مدى الهوة التي سقطت فيها البلد والتي لا يمكن لها الخروج منها مهما حاول وزراء الصناعة أن يقنعونا بغير ذلك.
في نهاية عصر عبد الناصر بدأت الأزمة الصناعية تظهر ثم حدثت نكسة 1967 وبدلاً من أن تكون حافزاً للإصلاح الصناعي أصبحت عائقاً أمام التطور الصناعي. فشل مشروع عبد الناصر الصناعي نتيجة لفشله في استشفاف المستقبل. كذلك فشل محمد علي نتيجة لفشله في إدراك أن الإصلاح الاجتماعي والصناعات المدنية هما الركيزتان اللتان بدونهما لا تستطيع دولة أن تحقق وتحافظ على النصر. كذلك نابليون فشل في إدراك أنه بدون الديمقراطية لا يمكن أن ينافس دول ديمقراطية مثل إنجلترا، بالرغم من أنه هو القائل "أن الدول التي لديها ثقافة أعلى هي التي تنتصر في النهاية." بنفس الطريقة نجح العمالقة الثلاثة وبنفس الطريقة فشلوا.
إن كان مشروع عبد الناصر الصناعي قد فشل، فماذا فعل السادات لتطوير الصناعة المصرية؟
أنور السادات طاووس بلا ريش
في عهد الرئيس السادات انهارت الصناعة المصرية ووصل الاقتصاد المصري إلي أدنى مستوياته. فاحتياطي العملة الصعبة تلاشى لدرجة أن وزير المالية كان يبحث في البنوك عن بضعة ملايين من الدولارات قد تكون منسية هنا أو هناك لدفع فوائد الديون المتزايدة. وكما ذكر وزير المالية في عهد السادات أنه تذكر أن هناك 4 مليون دولار في البنك باسم السادات تبرع بها احد أمراء الخليج للمجهود الحربي، فقام الوزير بسحبها لدفع جزء من فوائد الدين، وبسبب هذه الواقعة اتهم بعض الناس السادات وقتها بأنه يختلس نقود التبرعات العربية. هذه الواقعة تجسد حجم الانهيار المالي الذي كانت تعانيه مصر في ذلك الوقت. السؤال الآن هو: كيف ولماذا وصلت مصر إلى هذه الحالة المزرية؟ في حين أنه أيام إعادة بناء القوات المسلحة في عصر عبد الناصر لم تكن الحالة بهذا السوء.
دراسة الوضع المصري في ذلك الوقت يشير إلى أن السبب في ذلك التدهور لابد أن يرجع إلى إمكانيات السادات العقلية والثقافية والشخصية. لذلك إذا تمكنا من معرفة مفتاح شخصية السادات فسنعرف سبب التدهور الصناعي والاقتصادي في مصر.
يمكن أن نلخص شخصية السادات كالآتي: رجل ميكيافلي جرئ مع نرجسية لا يدعمها مظهر أو جوهر، أي أنه باختصار يشبه طاووس بلا ريش. هنا الميكيافلية ليست بمعناها القبيح التي يمكن أن تدمر الآخرين في سبيل المصلحة.
ربما اعترض معترض قائلاً: "لماذا اعتبرت أن شخصية السادات هي مفتاح معرفة سبب التدهور في عصره، بينما لم تقل ذلك في حالة عبد الناصر؟ ألم يكن عبد الناصر الآمر الناهي أثناء حكمه أكثر مما كان السادات؟ ولماذا كانت نرجسية و ميكيافلية السادات فقط هي المؤثرة في قراراته بينما لم تذكر أن شخصية عبد الناصر كانت أيضاً مؤثرة في قراراته؟
في الحقيقة هذه اعتراضات وجيهة ويجب الرد عليها لتوضيح الأمور. عبد الناصر كان ثائراً قام بالثورة لتحقيق برنامج واضح بينت تفاصيله في عدة وثائق مثل فلسفة الثورة والميثاق، أما السادات فلم يكن له برنامج محدد. لذلك في عصر عبد الناصر كان برنامج الثورة يطبق، سواء اتفقنا على جدوى هذا البرنامج أم لم نتفق. من هنا كان تقيمنا لمرحلة عبد الناصر هي تقييم فكر وبرنامج، وحيث أن الأمور كانت في يد عبد الناصر، حُمِل هو مسؤولية عدم القدرة على تحديث الصناعة المصرية لتصبح قريبة من مستوي الصناعة في الدول المتقدمة. أما في حالة السادات فلم يكن لديه برنامج، ومن هنا كان المحرك الرئيسي لقراراته هي شخصيته وطموحاته وقدراته العقلية والثقافية وقناعته المتولدة من كل هذه العوامل. بذلك تصبح دراسة شخصيته هي المفتاح لتفسير كل ما حدث للصناعة المصرية.
لكي نعرف شخصية السادات دعنا نتتبع سيرته. السادات من عائلة متوسطة، التحق بالكلية الحربية وتخرج منها ضابطاً. لكن يبدو أن طموحه كان أكبر من أن يكون ضابط في الجيش. لذلك اشتغل بالعمل السياسي السري حتى يبلغ ما يطمح إليه. هذا أدي إلى اشتراكه في مؤامرة اغتيال الوزير أمين عثمان. لكنه لم يكن من ضغط على الزناد، بل حاول بقدر المستطاع أن يبعد نفسه عن مسرح الجريمة. هذه الفعلة تكشف الجانب الطموح المغامر بحذر. كان السادات عضوا في الحرس الحديدي للملك وفي نفس الوقت كان من أعضاء الثورة ويبدوا أنه كان يمد الملك ببعض المعلومات عن الضباط الأحرار ولكن ليس بالدرجة التي تفشل الثورة. هذا يؤكد ميكيافلية السادات والتي لم تكن من النوع القذر وهذا يعني أنه كان أيضاً يحب بلده ويكره الإنجليز والمتعاونين معهم.
في يوم قيام الثورة ذهب السادات إلي السينما وتعارك مع بعض الناس وأصر أن يثبت ذلك في محضر البوليس، فهل يعقل أن يذهب أحد المخططين للثورة السينما قبل ساعة الصفر بثلاث ساعات. التفسير المنطقي لهذا التصرف هو أنه كان يريد أن يحتاط عند فشل الثورة، كما فعل عند مقتل أمين عثمان. هذا يدعم رأينا أن السادات كان يعمل لطموح شخصي أكثر منه لفكرة يؤمن بها.
بعد نجاح الثورة تغير أسلوب السادات. فبعد أن كان ثائراً على الظلم والفساد والإنجليز استمر قي الحكم مهادنا عبد الناصر وارتضي من المهام أقلها بريقاً ونفوذاً علي أن يبقى من رجال السلطة. لم يعترض على ما كان يراه من مساوئ في النظام. لو كان المبدأ هو الأهم لاختلف مع عبد الناصر كما اختلف معه بعض أعضاء الثورة مثل خالد محي الدين.
بعد وفاة عبد الناصر كان أول شيء أعلنه هو أنه سيسير على خط عبد الناصر. بعدها أكتشف الشعب أن هذا الوعد ليس صحيح لدرجة أنهم وصفوا مقولته بأنه "يسير على خط عبد الناصر بأستيكة (ممحاة)؟. بعد أن استتب الأمر له قام بتغيير نهج مصر كلية، انتهج سياسة الانفتاح الفوضوي بدلا من التخطيط المركزي؛ عادى الروس الذين كانوا يساعدونه وتصادق مع الأمريكان الذين كانوا يساعدون عدوه؛ تصالح مع الإسلاميين وعادي الوطنيين والاشتراكيين؛ ترك أعداء عبد الناصر ليهاجمون الثورة ومبادئها، في حين أودع خصومه السجن حينما انتقدوه. هذه القرارات كانت كارثية: أضعفت مصر وكانت ستؤدي إلى إفلاس البلد. السؤال الآن هو لماذا انقلب السادات 180 درجة علي مسيرة الثورة التي شارك فيها والتي يستمد منها شرعيته؟
التفسير المقبول لهذا التصرف هو أن السادات تصرف كما تصرف كثير من الحكام من قبل عندما يرثون زعيم كارزمي توفي قبل أن يحقق أهدافه أو تعثرت مسيرته. في هذه الحالة الحكام الجدد ينظرون إلي الأمور بمنظور مفهوم المخالفة وهو "إن أدي عمل ما إلي نتيجة ما فعكس العمل يؤدي إلي عكس النتيجة". اعتقد السادات أن الاشتراكية هي سبب الفشل فآمن أن الرأسمالية هي الطريق إلى النجاح؛ تصور أن القطاع العام الموجه هو سبب البؤس فاعتقد أن القطاع الخاص الحر هو الأمل في الرفاهية؛ تخيل أن التخطيط المركزي هو المشكلة فسكن في قراره أن الانفتاح الفوضوي هو الحل؛ توهم أن الروس هم سبب عدم حل المشكلة مع إسرائيل فراهن على أن مفتاح الحل مع أمريكا.
بقراءة التاريخ نجد أن هناك حكام تصرفوا مثل السادات وكانت نتيجة تصرفهم مثل نتيجة تصرف السادات. مثلا، الخديوي عباس الأول فعل مثل السادات فقام بعكس كل قرارات محمد علي التقدمية فكانت النتيجة انهيار مصر واحتلالها. كذلك فعلها جربوتشوف في الإتحاد السوفيتي بالرغم أنه امتداد لبرجنيف. جربوتشوف لم يتعلم من فشل السادات بل قلده في مسألة الانفتاح فكانت النتيجة انهيار الإتحاد السوفيتي أقوي دولة في العالم. أي أنه في كل هذه الحالات النتيجة واحدة: انهيار الوضع الاقتصادي وفقدان الدولة هيبتها داخليا وخارجيا. هذا الخطأ الكارثي لا يقع إلا من دكتاتور محدود الثقافة معجب بنفسه فلا يسمح لمستشار أن ينصحه ولا يجد مخزون ثقافي يستعين به ولا يشعر حتى بهاجس يدفعه إلي توخي الحذر.
السادات أعلن أنه يسير على خط عبد الناصر حتى يعطي نفسه الشرعية، ثم خاض حرب أكتوبر بتجهيزات وخطة عبد الناصر و أنكر دور عبد الناصر و حتى دور من خطط للحرب وقادها وهو الفريق الشاذلي. ولكن لأنه مغامر شن الحرب والتي بسبب تدخله كانت ستؤدي إلى كارثة أكبر من كارثة 67، اقرأ كتاب الفريق الشاذلي المنشور في هذه الجريدة في أعداد سابقة. بعد حرب أكتوبر زادت نرجسية السادات وبدأ يؤمن بنظريات و يصدق أنه هو الذي اخترعها. كان أولها أنه انتصر في حرب أكتوبر بدون مساعدة السوفيت، وهذا ليس صحيحاً. وثانيها أن الانفتاح سيأتي بالرخاء وهذا لم يحدث. وثالثها أن الصدمة النفسية والعصبية التي أحدثها في العالم بزيارته لإسرائيل هي التي أجبرت إسرائيل على توقع صلح مع مصر وهذا غير صحيح لأنه يفترض أن زعماء إسرائيل هم قوم من السذج الذين لا يفقهون قولاً.
من هنا نقول أن السياسة الخارجية والاقتصادية والصناعية في عصر السادات كانت محكومة بعقلية وسيكولوجية السادات ولم تكن هناك خطة للنهوض بالصناعة في مصر. لذلك وجدت مصر نفسها تحت وطأت ديون خارجية وصلت إلي ما يقرب من 50 بليون دولار في الثمانينيات ولولا إعفاء جزء كبير من ديون مصر بعد حرب الخليج الأولى والمساعدات الأمريكية لأعلنت مصر إفلاسها وفرض عليها الوصاية. كثير من المصريين لا يدرك ذلك لكنها الحقيقة المرة، فهل تمكن مبارك من تصحيح ما أفسده السادات وما لم يستشرفه عبد الناصر؟
البرنامج الصناعى فى عهد مبارك
هل الرئيس مبارك دكتاتور؟ هذا سؤال لابد من الإجابة عليه قبل تحليل وضع الصناعة في عصره، وتحديد على من تقع المسئولية المباشرة، وعلى من تقع المسئولية غير المباشرة. البعض سيجيب على هذا السؤال بالإيجاب وسيطرحون بعض الأدلة منها أن الرئيس مبارك يعتلي سدة الحكم منذ ما يقرب من ربع قرن دون أي دلالة على تخليه عنها مادام حياً وهذا دليل على أنه دكتاتور. و الدليل الثاني هو إصراره علي استمرار العمل بقانون الطوارئ. أما دليلهم الثالث هو أنه جعل سلطات رئيس الجمهورية تطغى على السلطة التشريعية والقضائية. ورابعها هو حبس الصحفيين المعارضين، ومحاباة الصحفيين الموالين للحكومة والتستر علي فسادهم الذي زكم الأنفاس بلا خشاء أو حياء.
أما من يوالون الرئيس سيردون بأن الحرية في مصر في أبهي حالتها، فالصحف تقول ما تشاء وتهاجم الرئيس والحكومة ليل نهار، والأحزاب موجودة، والسفر مسموح والقطاع الخاص يعمل بحرية. فإن قيل لهم إن الوضع الاقتصادي سيء تعللوا بأن مصر دولة نامية ليس لديها موارد طبيعية، وقد دخلت أو أدخلت في حروب عدة أنهكتها. أضف إلى أن تعداد سكانها يقارب ال 80 مليون نسمة يعيشون على مساحة رقعة زراعية لا تتعدي 5% من مساحة البلد وليحمد الناس الله فلولا عبقرية الرئيس وحكمته لأصبح الوضع أسوء بكثير، ولكن عناية الله وهبت مصر رئيساً محنكاً مثل حسني مبارك.
لكي نعرف أي الرأيين حق، لابد أولاً أن نُعَرِف ما هي صفات الدكتاتور. كلمة دكتاتور يبدوا أنها مشتقه من الكلمة الإنجليزية (Dictator) وهي مشتقه من الفعل (dictate) أي يملي. فأول وأهم صفة من صفات الدكتاتور أنه يملي إرادته على الآخرين. الدكتاتور في الغالب لا يتنازل عن رأيه ولا يغيره إلا إذا أجبر على ذلك بالقوة. وزراءه بلا صلاحيات حقيقية، مهمة مساعديه هي للمصادقة على أرائه فقط، ومن لا يصادق على قرارات الزعيم يفقد الثقة ويفقد منصبه، و إن كان الاعتراض يشكك في ولاء المعترض للدكتاتور فإنه يصفى أو يسجن. أليس هذا ما كان يفعله دكتاتوريون مثل هتلر و موسوليني و ستالين و ماو؟ فهل حسني مبارك يتصرف بهذه الطريقة؟ الجواب لا. الدليل على ذلك أن مبارك حينما تولى الحكم طلب من أللاقتصاديين عقد مؤتمر للبحث عن أفضل السبل للخروج بالبلد من الأزمة الاقتصادية التي تسبب فيها السادات. انعقد المؤتمر وقرر توصيات منها: تحسين البنية التحتية وخصخصة القطاع العام، بالإضافة إلى بعض المشاريع الكبيرة مثل مترو الاتفاق وغيرها. تبنى الرئيس التوصيات وأمر بتنفيذها ولم يفرض رأيه على الوزراء.
استمر الرئيس على هذا المنوال حتى يومنا هذا، حتى عندما يتخذ رأي ثم ينصحه بعض مستشاريه بتغييره فإنه يغيره. فمثلا فكرة تعديل الدستور كانت مرفوضة منه ثم عدل الدستور، قانون منع حبس الصحفيين كان قد وعد به ولكنه لم يعرضه على مجلس الشعب بناءً على نصيحة البعض. قانون السلطة القضائية قدم ولم يعرض على مجلس الشعب بالرغم من وعد الرئيس أنه سوف يعرضه للمناقشة فور تقديمه.
الرئيس يستأثر بالسياسة الخارجية لكن الشئون الداخلية مثل الصناعة والزراعة والاقتصاد والتعليم يبدوا أنه أعطي وزرائه ومستشاريه حرية العمل والمحاولة إلى أقصى الحدود، أي أنه تبنى سياسة رفع اليد.
وزير الزراعة وعد مبارك بأنه سيحقق الأمن الغذائي لمصر في عشر سنوات فأعطاه الرئيس 18 عاماً، بعدها أصبحت مصر أكبر مستورد للقمح في العالم ولم يتدخل الرئيس. وزير الإعلام أخبره بأنه يجب أن يكون لدي مصر قمراً صناعياً لكي تحافظ مصر على ريادتها الإعلامية فخوله بإطلاق قمرين، بعدها فقدت مصر تأثيرها الإعلامي حتى أصبح مشاهدة نشرة الأخبار المصرية يصيب بالتقيؤ، ولم يتدخل الرئيس. كذلك فعل الرئيس مع باقي الوزراء، وعلى حد علمي فإن الرئيس مبارك لم يرفض أي خطة للإصلاح الاقتصادي أو الصناعي قدمت له من وزرائه. فأين هذا الدكتاتور؟
ريما تساءل البعض: إن كان الرئيس لا يفرض رأيه فلماذا يقول الوزراء عندما يتحدثون عن أي مشروع "هذا من توجيهات الرئيس أو على حسب توجيهات الرئيس، “ أليس هذا يثبت أنه دكتاتور، وان ما يحدث هو بناء على أوامره؟ في رأيي أن هذه العبارة تقال حتى تعطي الغطاء الشرعي لما يريد أن يفعله الوزير وتقوي من موقفه أمام معارضي الخطة بإخبارهم بموافقة الرئيس على الفكرة، أكثر من أنها تدل على أن الرئيس هو مهندس الفكرة وأنه قد فرض رأيه.
الرئيس رفع يده عن أمور الدولة الداخلية وتركها للوزراء والمستشارين ومسئولي الحزب في مقابل أن يعلن هؤلاء ولاءهم للرئيس. هذا لا يعني أن الرئيس لم يعطي أفكار وتوجيهات عامة مثل: يجب زيادة التصدير، أو تحسين التعليم، أو الاهتمام بمحدودي الدخل وغيرها من العبارات العامة. هذه العبارات تجعل كل ما يفعله أي مسئول من الناحية النظرية يقع تحت توجيه من توجيهات الرئيس. لذلك لم يجانب الوزير الحقيقة عندما يقول أن ما يفعله هو حسب توجيهات الرئيس.
إن اعترض معترض بأن أوامر حسني مبارك هو التي تنفذ في آخر الأمر، قلنا و كذلك جميع الرؤساء، الديمقراطي منهم والدكتاتوري، أوامرهم هي التي تنفذ في آخر الأمر ووزرائهم يقولون أن الكلمة الأخيرة هي للرئيس و أن ما يفعلونه ما هو إلا ما يريده الرئيس. الرؤساء هم المسئولون أولاً وأخيراً عن أي قرار يصدر من السلطة التنفيذية، سواء كان هم أم غيرهم من اقترحه. الفرق بين الرئيس الديمقراطي والدكتاتوري هو أن الرئيس الديمقراطي يستمع إلى آراء معاونيه ويتبنى ما يقتنع أنه الصحيح، أما الرئيس الديكتاتوري فيلقي برأيه ولا يريد من أعوانه إلا الموافقة. في حالة الدكتاتور يكون هو مسئول مسئولية شخصية عن النتائج، أما في حالة الديمقراطي فالمسئولية جماعية ومسئولية الرئيس هي في الغالب المسئولية الأخلاقية. لذلك الرئيس الدكتاتوري يمكن أن يحاسب شخصياً علي الأخطاء أما الديمقراطي فلا يحاسب شخصياً عن الأخطاء بل يترك حكمه لإرادة الشعب أثناء الانتخابات.
هل يعني ما قلناه سابقاً أن مصر هي دولة ديمقراطية؟ الجواب هو أن مصر ليست ديمقراطية كما أن الرئيس مبارك ليس دكتاتور بالمعنى المعروف في أذهان الناس. مصر هي دولة بيروقراطية محكومة بحاشية البلاط الجمهوري المكونة من الوزراء والمستشارين وكبار المسئولين في حزب السلطة. بعض أفراد الحاشية، إن لم يكن كلها، يمكن أن يكون لديهم النية للنهوض بالبلد لكن مع المحافظة على مكاسبهم الشخصية وزيادتها. وحيث أن هذه الحاشية تفتقر إلى الإبداع على المستوى المهني والسياسي والإستراتيجي، فلقد حولت البلد إلي حقل تجارب لمشاريع غبية فاشلة بناء علي أفكار أشباه متعلمين وفاسدين ولصوص. لو كان مبارك ديكتاتور لحد من هذا العبث ولو كانت مصر ديمقراطية لتخلصت من هذه العصابة بالانتخابات. لكن مصر انتهت بنظام من أسوء ما يكون: لا رئيس يتدخل لتصحيح النظام ولا نظام يضع ضوابط للعمل.
هناك نقاط تشابه بين وضع مصر الآن وضعها بعد الحرب العالمية الثانية مع الفرق الكبير بين الملك فاروق والرئيس مبارك وبين حاشية القصر الملكي والقصر الجمهوري. أيام الملك كانت مصر تحكم من ملك عاهر زاني وبحاشية من الشمرشجية والحلاقين والقوادين. أما الآن فبالرغم أن الرئيس حسني مبارك رجل عفيف وزوج وأب محترم، إلا أن الحاشية الحالية ليست أفضل فالفساد والفشل وسوء الإدارة مستشري في كلا الحالتين.
إن اعترض معترض قائلاً: أنت نصبت نفسك حكماً على هؤلاء الوزراء وهم أساتذة أفاضل ورجال
السابقة والدراية بحقيقة الوضع على أرض الواقع؟ أليس هذا أفضل سيناريو لتشكيلة الوزارة حيث تم جمع العلم والخبرة بين أعضائها؟
للرد على هذا التساؤل أقول: أنا لا أقول أن الوزراء غير محترمين بل أن كثير منهم على قدر كبير من الأخلاق. لكن دعنا ننظر إلى كيفية اختيارهم: أساتذة الجامعات يختارون على قدر ولائهم للنظام والذي من أهم شروطه هو إظهار أقل قدر من الاستقلالية في التفكير وأقل قدر من الإبداع حتى لا يغطوا على مواهب رؤسائهم. فماذا تتوقع من وزارة وزيرها هذه أهم إمكانياته. دليلنا على ذلك أنه عندما بدأ الدكتور الجنزوري رئيس الوزراء السابق العمل بشيء من الاستقلالية كان نصيبه الإقالة والدليل الآخر هو النتائج: ما هي حصيلة حكم 24 عاماً؟ ألا يدل هذا على قدرة هؤلاء الوزراء المتدنية؟ أما رجال الأعمال، نعم لقد نجحوا في القطاع الخاص ولكن في أي محيط؟ ألم يحقق هؤلاء الرجال مكاسبهم في جو يغلب عليه الرشوة والفساد والاحتكار والغش، فأي نظام تتوقع أن يستخدموه في الإدارة؟ الجواب هو النظام الذي نشأوا فيه و لديهم فيه خبرة و حققوا فيه نجاحات وهو مزيد من الرشوة والفساد والاحتكار والغش. أليس كذلك؟
نعم هناك اختلاف بين أيام فاروق والآن، لكن الاختلاف يقف عند مؤهلات الحاشية، أما النتيجة في كلتا الحلتين واحدة: تدهور الحياة السياسية والاقتصادية وزيادة الفروق بين الأغنياء والفقراء وانتشار الرشوة والفساد الإداري والمالي؛ هذا بالإضافة إلي افتقار الرؤية الإستراتيجية والعقم الفكري على كل الأصعدة و شبه فقدان للاستقلالية السياسية.
لكن من المسئول عن هذا الفساد؟ إنه الرئيس حسني مبارك. نحن لا نبرئ الرئيس مبارك من المسئولية إنه هو المسئول عن هذا الانهيار والفساد بطريقة مباشرة وغير مباشرة. إنه رئيس الجمهورية و على علم بما يحدث. الذي لا أفهمه أنه يتبع سياسة العند في تعامله مع الشعب: إن أحب الشعب شخصاً أقاله، كما فعل مع الدكتور الجنزوري وعمر موسى، وإن أبغض الشعب شخصاً تركه كما فعل مع وزير الزراعة. لعله يتبع الآية:"وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ".
دعنا الآن نعود إلى السؤال الأساسي لهذه الحلقة: ما هو البرنامج الصناعي في مصر في عهد الرئيس مبارك؟ الجواب أنه لا يوجد برنامج صناعي في مصر. كل الموجود هو مشاريع بدائية لولا أننا نعلم أنها من بنات أفكار الوزراء لقلنا أنها لا تعدوا أن تكون من أفكار محولجي سكة حديد أو عامل تليفون أو خردواتي. لكي أوضح هذه النقطة دعني أعطي عدة أمثلة.
من عدة سنوات قررت الحكومة إنشاء مشروع يسمى "شرق التفريعة." هذا المشروع قالوا عنه أنه مشروع "Re-exportation" أي إعادة تصدير. برروا المشروع بالقول: "نحن لا نستطيع منافسة الدول المتقدمة لكن نريد أن نقلد دولاً مثل تايوان وهونج كونج: نستورد البضائع بالجملة ثم نقوم بتعليبها وإعادة تصديرها". قامت الدولة بطرح عدة ملايين من الأمتار المريعة لهذا المشروع وإيصال ثم تم إيصال الخدمات له بتكلفة عدة مليارات. بعد ذلك بيعت الأرض لحيتان رجال الأعمال بسعر أقل من سعرها الحقيقي بأكثر من 100 مرة.
الآن بعد عشرة سنوات لا نعلم ماذا استفادت مصر من هذا المشروع وكيف ستسترجع تكلفة المشروع لأن أي شخص لديه الحد الأدنى من الذكاء يدرك أن هذه المصانع لا تعدوا أن تكون مصانع علب كرتون و أكياس بلاستك. هل يتصور عاقل أن بلد المنتج لا يدري كيف يضع هذه المنتجات في علبة كرتون أو كيس بلاستيك وينتظر أن تقوم مصر بهذه المهمة الشاقة!؟ هل يتصور عاقل أن الربح من كيس بلاستك أو علبة كرتون ستغطي تكلفة النقل والشحن والتفريغ من البلد ألمنتح إلى مصر ومن مصر إلى المستهلك؟ أليس هذا جنونا؟ هل أدركت الآن يا عزيزي القاري أن هذا المشروع لا يفكر فيه إلا متخلف عقلياً أو خردواتي ساذج يعتقد أن البضاعة تباع فقط لأنها موجودة في علبة كرتون أنيقة أو كيس بلاستيك نظيف و أن الدول المتقدمة عاجزة عن فعل ذلك.
المثال الثاني هو مثال القرى الذكية التي تسوق على أنها ستدخل مصر عصر ما يسمى بتكنولوجيا المعلومات وكأن تكنولوجيا المعلومات ستجعل مصر غير محتاجة للصناعات التقليدية. لكن ما هي القرية الذكية؟ هي مجموعة مباني فيها أسلاك تليفون وكابلات كمبيوتر "coaxialcables" بالطبع هذه الكابلات ستوصل ببعض الأجهزة الموجودة في دواليب الاتصالات "communicationclosets" هذا هو ما يوجد ويجب أن يوجد في أي مبنى إداري أو صناعي و لا نحتاج إلي بناء قرية لذلك. بالإضافة إلى أن هذه القرى الذكية هي للخدمات فما هي الصناعة التي سوف تخدمها؟ ألم يكن من الأجدى أن نستخدم ملايين الجنيهات التي أنفقت على هذه القرى لبناء مثلاً مصنع لتصنيع الدوائر التكاملية التي بها يمكن تصنيع أجهزة الاتصالات هذه بدلا من إنفاق ملايين الدولارات لشراء هذه الأجهزة. ألن يُمَكِننا هذا من بناء هذه الأجهزة لجعل مصر كلها دولة ذكية بدلاً من أن نكتفي بكفر أو نجع ذكي فقط؟ هل يمكن أن يخطط مستقبل مصر الصناعي حول مباني بها توصيلة تليفون وتوصيلة حاسب إلكتروني؟
المثال الثالث هو مثال من قطاع الزراعة، لكي نري أن السياسة الفاشلة في مصر لا تقتصر على الصناعة ولكنها ظاهرة عامة لا ترتبط بحقيقة أننا دولة نامية لا نستطيع أن نتنافس مع الدول الغنية. تعهد وزير الزراعة السابق بأنه سوف يحقق الأمن الغذائي في مصر. بني الوزير خطته على الآتي: زراعة محاصيل ذات قيمة تصديرية عالية يستهلك بعضها محلياً ويصدر الباقي، بعد ذلك يستخدم الربح المحقق من التصدير لشراء محاصيل ذات قيمة شرائية منخفضة. الفرق بين تكلفة التصدير وتكلفة الاستيراد سيدخل بالطبع في خزينة الدولة. لذلك قرر الوزير زراعة الفراولة والتفاح وتصديرها ثم استيراد القمح بلاً من زراعة القمح في مصر. لكن ما غاب عن الوزير هو أن الفراولة والتفاح لا تصلح أن تكون غذاء رئيسي "Stable" لأنها لا تحتوي على ما يكفي من الكربوهيدرات التي تمد الإنسان بالسعرات الحرارية اللازمة للحياة. الإنسان يحتاج إلى محاصيل مثل القمح والأرز لإمداده بهذه السعرات والتي بدونها لا يستطيع الحياة. أما الفراولة فهي مثل الجرجير والفجل تمد الإنسان بالفيتامينات ولكن سعراتها لا تكفي لحياة الإنسان. الإنسان يستطيع الاستغناء عن الفراولة وأكل الفجل بدلا منها، ولكنه لا يستطيع الاستغناء عن القمح وأكل التفاح بدلاً منه. إذاً بالله قل لي كيف يحقق الأمن الغذائي بتقليل إنتاج ما هو ضروري لهذا الأمن و إنتاج ما هو ليس بضروري له؟ الأدهى من ذلك أن مصر لم تتمكن حتى من تصدير الفراولة بسبب استخدام المبيدات المصرطنة لكن ذاد اعتمادها على الخارج لتوفير احتياج البلد من القمح. فأي أمن غذائي هذا الذي تحقق من زراعة الفراولة. وإن كانت الفراولة ذات قيمة تصديرية عالية لماذا لم تزرع أمريكا وفرنسا وأستراليا غالبية أراضيها فراولة ويصدرونها ولماذا يصروا على زراعة القمح والذرة وتصديره؟ أليس هذا جنوناً؟
ربما يقول قائل: نعم نحن نواجه صعوبات ولكننا سوف نتقدم وهناك أمل. لكن قبل أن تحدد هل هناك أمل أم لا دعني أحكي ما شاهدت على إحدى القنوات الفضائية وهو فيما يبدوا عن الإبداعات في العالم العربي. بدأ البرنامج بفقرة عن مشروع مبدع في مصر وهو أن احدي السيدات تقوم بتعليم الأطفال كيف يمكن عمل عرائس صغيرة وتماثيل من طين بحيرة قارون بخلطه على ما أعتقد ببعض القش ثم تشكيله وحرقه وتلوينه وبيعه للسائحين بعدة جنيهات قليلة. بعد هذه الفقرة عرض التلفزيون فقرة عن صناعة الماس في الخليج وكيف أن دول الخليج أصبحت من أكبر اللاعبين في صناعة الماس وان حجم هذه الصناعة يصل إلى مئات الملايين من الدولارات.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى